الصراع الاقتصادي الأمريكي – الصيني على الموارد والإبداع الإداري!
يتساءل معظم المحللين هل يمكن أن تنشأ حرب بين الصين وأمريكا بسبب تايوان؟ وهل بلغ الحبّ الأمريكي للشعب التايواني إلى درجة الدخول في حرب كبيرة؟ أعتقد أن تايوان ليست أكثر من قصة ( مسمار جحا) لأمريكا ضد الصين؟
في الحقيقة إن الصراع الحالي بين ( الصين وأمريكا ) هو صراع اقتصادي بشكل عام وعلى جزيرة تايوان بشكل خاص وعلى شركة تصنيع الرقائق الإلكترونية التايوانية بشكل أخص ، وسأركز على الجوانب الاقتصادية رغم أهمية الأبعاد السياسية للصراع بين العملاقين الكبيرين ( الصين وحلفائها) و( أمريكا وتابعيها ) ، وأبدأ بالأسئلة لأنها في أغلب الأوقات ذات أهمية أكثر من الأجوبة، وفي مقدمة التساؤلات لماذا هذا الاهتمام الأمريكي بتايوان بما يشبه الاهتمام بأوكرانيا ( سلة الغذاء الأوروبي وحتى العالمي)؟ فمهما دورنا الزوايا وكوجهة نظر خاصة أجد أن الصراع على الموارد هو المحرك الأساسي لكل الصراعات مهما كانت الادعاءات والشعارات المرفوعة من الدول الغربية ، وكمثال على ذلك ما نراه الآن من توتر كبير بين أمريكا والصين حول تايوان الجزيرة الصغيرة الواقعة في شرق آسيا في المحيط الهادىء، ولا تتجاوز المسافة بينها وبين الصين 140 كم، وتعتبرها الصين جزءا لا يتجزأ من ( الصين الموحدة ) وستعود قريبا إلى وطنها الأصلي كما عادت ( ماكاو وهونغ كونغ )، وحاليا تعد بمنزلة الخاصرة الضعيفة لها من كثرة التدخلات الغربية بأمورها والعمل على حصار الصين ، وتبلغ مساحتها / 36193 / كيلومترا مربعا وتشكل نسبة /0،31%/ من عدد سكان العالم وهي في المرتبة ال/57/ عالميا من حيث عدد سكانها البالغ عددهم حوالي /24/ مليون نسمة ، وبكثافة سكانية قدرها /673/ نسمة /كم2 ، ولكنها صنفت سنة /2022/ بأنها من أغنى /14/ دولة في العالم ورقم /7/ في قارة آسيا ، وقد بلغت قيمة ناتجها الإجمالي حوالي /680/ مليار دولار .
وتؤكد الدراسات الاقتصادية أن مصدر النمو الأساسي في تايوان هو شركة ( تايوان لصناعة أشباه الموصلات المحدودة TSMC)، وتكمن وراء تأسيس هذه الشركة قصة إدارية تستحق الدراسة والاستفادة منها ، وتتلخص في أن تايوان كانت جزيرة نائية في ثمانينيات القرن الماضي ، فوجدت أنه لا يمكن نقل اقتصادها من الاقتصاد الزراعي إلى الصناعي إلا بالاعتماد على كوادرها في الداخل والخارج وتشجيعهم على الابتكار، واستطاعت الحكومة التايوانية إقناع مواطنها ( موريس تشانج) بالعودة من أمريكا والذي أسس شركة (تايوان لصناعة أشباه الموصلات ) سنة /1987/ وهي شركة مشتركة مع الحكومة التايوانية وشركة (فيليبس Philips ) الهولندية عملاق الصناعة الإلكترونية العالمية في ذاك الوقت وبرأسمال قدره /220/ مليون دولار لإنتاج (الإلكترونيات والإنترنت والروبوتات والذكاء الصناعي والأمن السيبراني والأجهزة الفضائية ومتطلبات تصنيع الطائرات، ووضع نظاما إداريا يرتكز على ترسيخ ثقافة الانضباط بالعمل وتعظيم سلاسل ( القيم المضافة ) وربط الأجر مع الإنتاجية، وبدأت الشركة تستفيد من الخبرات التراكمية، وطبقت فعليا نموذج ( سوات) SWAT، أي معالجة جوانب ضعفها وتفعيل نقاط قوتها واستغلال الفرص والإمكانيات المتاحة لديها وتفعيل نقاط القوة، ودرست نقاط ضعفها لمعالجتها، وتطورت منذ ذلك الوقت بمعدل نمو سنوي حوالي /17%/ ويقدر رأسمالها ب/550000/ مليون دولار أي حوالي /2500/ ضعف عند تأسيسها سنة /1987، أي منذ /35/ سنة، ولديها استثمارات في وادي السيليكون الإلكتروني الأمريكي، وسجلت في بورصة نيويورك سنة 1997.
وترافق هذا مع التوسع في الاستثمار في الصناعات ذات الكثافة الرأسمالية الكبيرة ، وطورت أبحاثها الاقتصادية من قبل اقتصاديين متخصصين درسوا الأسواق العالمية وخاصة مستقبل هذه الصناعة، ووجدوا أن هذه الرقائق سيزداد الطلب العالمي عليها مستقبلا، وحللوا كل من قوى العرض والطلب، ووضعوا سياسة ( اقتصادية إدارية) معتمدة على أسس تسويقية ومنها [ كسب ثقة المتعاملين و إرضاء الزبائن “أن تربح زيونا خير من أن تربح صفقة” وبأسعار متوازنة وأرباح متواضعة بالنسبة للتكلفة وسياسة استثمارية واضحة .. الخ ] ، ونتيجة هذه الإجراءات نوعت صادراتها وأسواقها، وسيطرت على /65%/ من السوق العالمية للرقائق الإلكترونية، ما أمن لها احتياطيات نقدية كبيرة استخدمتها في التوسع الأفقي والتكامل العمودي، وركزت على التوريد إلى دول كبيرة مثل ( الصين وأمريكا واليابان وإلى كوريا الجنوبية بعد أن تفوقت على شركتها سامسونغ) وغيرها وأهم الشركات العالمية مثل ( أبل Apple وكوا ليكوم Qualcomm ونفيديا NVidia ) وغيرها ، وقد بلغت قدرة الشركة الإنتاجية سنة /2020/ حوالي 13 مليون رقاقة سنويا، واستطاعت أن تسبق شركة ( إنتل) الأمريكية بجيل واحد على الآفل والشركات الصينية المنافسة بجيلين وأكثر ؟
وفي سنة /2022/ خططت الشركة لتصنيع رقائق /7 نانومتر وهي أسرع بمقدار /70%/ من أحدث الرقائق العالمية الحالية، ووصل عدد موظفي الشركة إلى أكثر من /50/ ألف موظف، وتوسعت فروعها لتبلغ /18/ منشأة على الأرض التايوانية ، وستنفق حوالي /100/ مليار دولار خلال السنوات الثلاث القادمة ، ومع التنافس العالمي بين الصين وأمريكا ومحاولة كل منهما تسجيل تفوق على كل دول العالم ، وخاصة أن أمريكا تعتبر مؤشر التنافسية من مرتكزات أمنها القومي، وانطلاقا من هذا بدأت مراكز الأبحاث الأمريكية تبحث عن حل لمنع الصين من الاستفادة من هذه الشركة، وتمّ إعداد ورقة بحثية نشرتها الكلية الحربية للجيش الأمريكي سنة /2021/ معدة من اثنين من كبار الاقتصاديين الأمريكيين تدعو لتدمير صناعة أشباه الموصلات التايوانية حتى لا تستثمرها الصين وتطور من صناعتها التكنولوجية بعد عودة تايوان إلى الصين!، ودعت الدراسة إلى ترحيل التايوانيين ذوي المهارات إلى أمريكا ، وخاصة أن هذه الشركة تعد المورد الأساسي لقطع تصنيع طائرة ( الشبح) الأمريكية من الجيل الخامس ( F35 ) والأسلحة العسكرية الفائقة الدقة، ومع زيادة حاجة أمريكا لاستيراد الرقائق الإلكترونية حيث تؤمن فقط نسبة /47%/ من احتياجاتها وتستورد /53%/ من الخارج وخاصة من تايوان الصينية، ما سيجعل أمريكا تقع في حالة تبعية للصين ، وكمحاولة لتطوير هذه الصناعة في أمريكا فقد تم إعداد تقرير اقتصادي للبيت الأبيض مكون من /250/ صفحة يتضمن الآلية لسيطرة أمريكا على سوق الرقائق ، كما ترافق هذا مع إعلان وزيرة التجارة الأمريكية ( جينا ريموندو ) عن تنفيذ قانون ( تشيبس والعلوم ) سنة /2022/ وهو لتشجيع بناء معامل لتصنيع الرقائق الإلكترونية لمعالجة النقص أو الفجوة التسويقية بين (الطلب والعرض ) ، ووضعت [ خطط لجذب الاستثمارات الخارجية ودعم الشركات المحلية لزيادة قدرتها التنافسية والتركيز على تمويل قانون (CHIPS for America ) لتحقيق الريادة الأمريكية في هذا القطاع و دعم النظام البيئي الأمريكي المحلي والشركات الصغيرة والمتوسطة والأعمال الصغيرة وسلاسل التوريد المصنعة للرقائق لتعظيم سلسلة القيم المضافة لهذه الصناعة، والاهتمام بالمواهب والكوادر الإدارية، والتدريب المهني، وتقديم الإغراءات المالية لتطوير هذه الصناعة و تحقيق المرونة مع الحلفاء والشركاء، وزيادة مستوى التعاون وخاصة مع كوريا الجنوبية، وفرض قيود حمائية لحماية التميز التكنولوجي الأمريكي]. وفي الوقت نفسه قامت الصين، كما أكد رئيسها (شي جين بينغ )، بتخصيص /1،4/ تريليون دولار وعلى مدار /6/ سنوات لتحقيق الريادة في صناعة الرقائق الإلكترونية، فهل يكون الصراع على هذه الشركة في تايوان من أهم عوامل تأجيج الصراع بين العملاقين الكبيرين، ما يؤكد أن المصالح فوق كل الاعتبارات وأن من سينتصر في سنة 2023 يستطيع أن يفرض سيطرته العالمية نظرا لأهمية هذه الصناعة بتحقيق السبق التكنولوجي ، وهذا يؤكد أنه مهما دورنا الزوايا فإن الاقتصاد هو كل شيء لأنه لغة المصالح.