على همس الجبل «اللي بعيد»: العربية ركن أساسي لحوار الحضارات
إدريس هاني
في ذروة الوجع اللبناني سياسياً واقتصادياً، تعاند الثقافة كي تكون ركناً ثابتاً تحرسه شعرية المكان وجمالية سوسيو- لسانية اختارت هذه المرّة أن تضطلع بسؤال اللغة العربية، من حيث هي ركن أساسي في حوار الحضارات، لبنان الثقافي حاضر بقوّة في كلّ الأحوال، ولمثقفيه الحقّ في ذلك، فقد نهضوا ذات يوم ليستأنفوا مهمّة بيت الحكمة البغدادي، في بواكير نهضة القرن التاسع عشر العربية، حيث حركة الترجمة مع عمالقة العوائل الأدبية والعلمية، أديب إسحاق، والبساتنة، وميخائيل نعيمة، وجرجي زيدان، وكوكبة من طلائع النهضة الأدبية العربية، التي حملت على عاتقها نقل الآداب الإنسانية إلى البيئة العربية، والارتقاء باللغة العربية إلى أفق التفاعل الحضاري مع تراث إنساني متنوّع، يوناني ولاتيني.
حضرنا هذه التظاهرة اللسانية في أفق ما تتطلّع إليه أمّة تعزز هويتها الحضارية، على مسافة من بيروت، هذه المرة في جبيل، حيث أقيمت فعالية المؤتمر الإقليمي حول اللغة العربية كركن أساسي لحوار الحضارات بالجامعة اللبنانية الأمريكية، من المركز الدولي لعلوم الإنسان- اليونيسكو، فكانت مناسبة للخوض في أسرار هذه اللغة وكبريائها اللّساني، حيث لها الفضل في تشكيل الوسيط التاريخي لنقل عيون التراث الإنساني إلى أوروبا، كما ساهمت في عصر النهضة والإصلاح العربيين في نقل عيون التراث الأوروبي إلى البلاد العربية، لغة ما زالت حاضرة في معمعان ترجمة النصوص الكبرى، أدبياً وعلمياً، وما زالت اللغة، التي يفهم معاصروها قدماءهم، لغة حافظت على معانيها وتراكيبها، وخاضت في الإنحاء وفقه اللغة بما يجعلها أقدر على التفاعل مع ما بلغته الألسنية الحديثة، فلقد فكّر فقهاء اللغة العربية في كل شيء، وفكروا فيما فكر فيه ألسنيون محدثون من دوسوسر حتى تشومسكي.
وفي هذا السياق حاولت في مشاركتي أن أعالج بعدين في العربية: البعد الأنطو-لساني، والبعد السوسيو-لساني، أجبت عربياً عن معنى أن تكون اللغة مأوى الوجود بتعبير هيدغر، وأن العربية في غناها وسعتها تجيب عن هذه الفكرة ما يعزز بداهة الوجود الذي أضمرته اللغة العربية نظراً لكثافة حضوره، إلّا ما كان تأكيداً، ليس على الكينونة بل على الكائن، إن كانت اللغة عموماً هي مأوى الوجود حسب هيدغر، فالعربية في نظري هي مشتل الوجود.
كان الافتتاح سمحاً في عناد.. سمح، لأنّه لم يكن عصبية شوفينية، بل حق تقتضيه العدالة اللغوية لأمّة مارست هذا التمرين الحضاري بلغتها. وفي مداخلة قيِّمة لوزير الثقافة في حكومة تصريف الأعمال القاضي محمد وسام المرتضى، وأخرى لرئيس الجامعة اللبنانية الأمريكية ميشال عوض، وثالثة للدكتورة دارينا صليبا أبي شديد المميزة، وذلك بحضور عدد من الأساتذة والطلبة، السيدة إليز سالم نائبة رئيس الجامعة، ود. ستناي شامي مديرة المجلس العربي للعلوم الاجتماعية التي أدارت جلستنا الأولى برُقيّ.
من قمّة الجبل حيث يربض نزلنا كالأسد، ما أروع تناول فطور لبناني: لبنة وزيت وزعتر، أنا متشوق لـ”ترويقة” رائقة ماتعة، لهذا السهل الممتنع من جمالية المشهد التي يؤثثها جبل هامس وشاطئ مسجّى على سفحه، متشوق للبنان ومتشوف للجبل، وهنا صمت تخرقه أصوات الطيور لتضفي عليه ملامح سيمفونية رضية تنحدر بين مسالك الجبل، وأجراس الكنائس التي تداعب الذاكرة الروحية لمسيحيي الشرق، القابضين على ناصية الهوية العربية، وحراس ذاكرة الجبل، ومطارنة جسدوا الروحانية الوطنية في كنف المسيح، وها هو بين يدي سفر حول المطران يوسف رزق: رزق جزين..رزقة عين ورقة ولبنان، من فيض يراع أبينا الخوري مخايل قنبر، ما أروعهم.
لبنان الجميل يواجه أعنف حصار، ولكن التسامي الذي تضمنته جمالية السوسيو- ثقافة اللبنانية، يحول دون انهيار إنسان يعيدك إلى عناد الفينيقي الذي صمد أمام أعاصير الحضارات القديمة في البرّ والبحر، أقول ذلك، لأنّني لمحت خلف المحيّا الطلق والصامد للإنسان اللبناني، جرحاً عميقاً من فرط الحصار الشامل والممنهج، إرباك لحياة مجتمع أمعنوا في تقويض بسمته والتشويش على منحاه في العيش المشترك.
ومع ذلك يظلّ لبنان هو لبنان، هو أكبر من كلّ الحسابات السياسية، هو هذا النسيم المنطلق، تلك النوتة الشاردة كلحن الطيون، تغريدة فيروز وخفّة نصري ودعابة وديع، هو هذا الوصل العبقري بين الجنوب والجبل والبقاع، هذا التنوع العبقري الذي يحيل إلى «الأنوسة» المبتهجة قبل ولادة العهد الدولي لحقوق الإنسان، هنا لا نحتاج إلى بنود تنظم العيش المشترك، تكفي دعابة سمحة ونظرة بريئة ونغمة منحدرة بين سفوح الجبل.
فينيقيا هنا شاهدة، على التجارة العريقة بالقول الجميل، التجارة بالإقناع، وفنّ المبادلة، وصناعة الحرف للتواصل الحميم.
وحين النزول، قليلاً إلى سفح الجبل، إلى الميناء، وآثار القوم الذين باعوا واشتروا من دون غزو، نتفقد تفاصيل المنحدر، مآثر ومعابد فرعية هنا وهناك، تحيلك إلى يسوع والسيدة العذراء، إلى عمق الروحانية والسلام، وهنا الجبل المعتق بهمس المسيح، الجبل “اللي بعيد” الذي يسكنه “حبايبنا”، وتقول فيروز:
«يا جَبل اللي بعيد..خلفك حبايبنا
بتمُوج متل العيد..وهَمَّك متعّبنا
اشتقنا عالمْوَاعيد..بكينا تعَذَّبنا
يا جبل اللي بعيد..قُول لْحَبايبنا»
يبقى الجبل، الذي لا تهزه ريح، صامداً بجلال، هامساً بجمال، على عهد الوفاء وذاكرة العيد وبوح «الحبايب» وخير ما أوصت به الغرّيدة نُهاد في الجبل «اللّي بعيد»:
«قِلْتِلّْهُن يا مين.. عالحلوين يسأل مِين
ما تْذَكَّروا تِخْمِين.. صاروا هيك غِدّارين
مع غَيرِنا رح يسعَدوا».