النحات عبد الله السيد.. “كاهن دمشق” الذي جاب اسمه الآفاق
تشرين-سامر الشغري:
تحفل سيرة حياة النحات الراحل عبد الله السيد بالكثير من الأحداث والانعطافات والإبداعات، والتي تستحق الوقوف عندها لأنها أخذت اسمه إلى أرجاء المعمورة وهو مقيم في فناء الفيحاء لا يغادرها، حتى لقِّب بين التشكيليين بـ” كاهن دمشق”.
ميزة السيد تتلمذه لدى جيل من المبدعين السوريين في مختلف صنوف المعرفة، فاستوعب كل ذلك وأحدث نقلة في مفهوم النحت وجعله أكثر قرباً من الجمهور.. السيد ولد في مدينة مصياف سنة 1941، يدين بتعلقه في الفن منذ طفولته لنخبة من المعلمين الذين تعاقبوا على تدريسه من رشاد قصيباتي وناظم الجعفري ومحمد الشيرازي، الذين علّموه مبادئ الرسم والزخرفة، كما كان لطبيعة مصياف أثر في مخزونه الصوري، فضلاً عن دور شقيقه الشاعر وهاوي الفن محمود السيد في إقباله على القراءة والرسم.
بعد أن نال السيد شهادة البكالوريا أصبح طالباً في قسم الفلسفة بجامعة دمشق، وهناك عمّق قراءته للأدب والفلسفة وبدأ ينشر كتاباته الأدبية في مجال القصة بمجلات شتى ومنها (ليلى) وكان يرأس تحريرها الكاتب جلال فاروق الشريف، و(الموقف الأدبي) وكان سكرتير تحريرها القاص زكريا تامر، و(سورية العربية) وكانت رئيسة تحريرها هنرييت عبودي زوجة المفكر جورج طرابيشي، ثم عمل بعدها في جريدة (الثورة) وهناك وطد علاقاته مع كتاب وفنانين فضلاً عن بقية شرائح المجتمع، واكتسب الانفتاح على الحوار والفضول المعرفي والاهتمام بالشأن العام والحس النقدي العالي.
وكان لافتاً أن السيد الذي اتجه للدراسة في كلية الفنون الجميلة لتعزيز معرفته التشكيلية كصحفي، سرعان ما انخرط كلياً في هذا العالم، وكان من أساتذته إلياس الزيات وفاتح المدرس وميلاد الشايب ولؤي كيالي وعبد القادر أرناؤوط ومحمود جلال، والمصري أحمد أمين عاصم الذي يلقب بالأب الروحي للنحت في سورية، فغدا من كبار طلابه ونهل من مبادئه ولاسيما في التركيز على الكتلة مقابل الفراغ وعلى الواقعية التعبيرية.
وبعد تخرجه في الكلية سنة 1971 بدرجة امتياز بمرتبة الشرف، أقام معرضاً مشتركاً مع عمالقة النحت وقتها وهم: سعيد مخلوف وعبد السلام قطرميز ومحمود دعدوش، ثم سافر إلى المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة في باريس، وتتلمذ على يد رئيس قسم النحت فيها الفنان هنري إتيان مارتن، وقدم بحوثاً حول البيت الدمشقي وفن الخط في اللوحة السورية الحديثة والتطور الجمالي في التصوير السوري الحديث.
ولدى عودته للوطن أمضى زمناً في الجانب الأكاديمي والنظري، فدرّس في كلية الفنون وأعد بحوثاً كثيرة أهمها (التشكيل السوري مخطط منهجي) متجاوزاً خلاله كل ما كتب عن التشكيل السوري، برؤية تاريخية مستبعداً التصنيف الغربي، وراصداً تطور الاهتمام بعناصر اللوحة في التصوير السوري.. ومنذ عقد التسعينيات تدفق عطاء السيد النحتي فحمل اسمه إلى الآفاق ولاسيما أعماله النصبية التي وصفت بأنها (ذات نزعة ملحمية تحفل بالعديد من العناصر والرموز ضمن مشهدية آسرة تعكس ثقافته النظرية والبصرية الواسعة).
لقد خلط السيد في أعماله بين التاريخ والأسطورة والرموز بأسلوب تعبيري مدهش كما في منحوتة (الروح الدمشقي) التي نفذها سنة 2000 من مادة البوليستر، ومنحوتة (سفينة نوح الدمشقي 2) ذات الـ14 طناً والموجودة حالياً في مدينة دالاس الأمريكية وأنجزها سنة 2000 من الحجر الكسبي، حاشداً لها رموزاً ذات مدلولات كالسبع الراقد في حضن عشتار والظبي والغراب.. ولكن المنحوتة الأكثر جماهيرية لدى السيد كانت تمثال صلاح الدين الأيوبي القائم على أسوار قلعة دمشق والذي أنجزه سنة 1992، واستغرق تنفيذه ثلاثة أعوام مستخدماً مادة البرونز لإضفاء المهابة والسمو على هذا القائد بمناسبة مرور 800 عام على وفاته.. وفي هذه المنحوتة التي يبلغ ارتفاعها ستة أمتار، حافظ السيد على الهيئة ذاتها التي نجدها في لوحات متخيلة لصلاح الدين، إذ نجده يمتطي صهوة جواده وحوله جنديان عربيان ومتصوف، وخلفه القائدان الأوروبيان رينولد دي شاتيلون وجي دي لوزينيان اللذان أسرهما بعد انتصاره في حطين.
وفي منحوتته (سفينة نوح الدمشقي 1) التي أنجزها من الحجر الرحيباني سنة 1999، نرى تجسيداً لسقراط وهو يجلس بوضعية تدمرية يتناول السم، ووجهين لغاضب وحزين بأسلوب يذكر بتماثيل مواي في جزيرة يوم الفصح، ونقرأ في أسفل المنحوتة أبيات شعر قال فيها:
“صلّيت ركعتي عشق
على جبل قاسيون؛
فطارت حمامتان:
واحدة فتحت باب المشرق،
و واحدة فتحت باب المغرب،
استلقيت في سفينة الشمس بينهما.”