حكاية تعالق والتباس وإشكالية “الأنا” بين النص وصاحبه!

تشرين – علي الرّاعي:

“كلَّما كنتَ مخفياً في النص الذي تكتبُه، دانتْ لك الحريةُ، ونامتْ عند أطرافِ أصابعك، وشغلتْ روحُك أكبر حيِّزٍ من جغرافيا الكونِ الذي تتحرَّكُ فيه، والذي أيضاً به تحلمُ” . ذلك ما ينصح به الشاعر المصري أحمد الشهاوي، في معرض حديثه عن إشكالية “التعالق” بين النص وصاحبه.. لكن ماذا عن أدب السيرة الذاتية على سبيل المثال؟!

ففي تعقّب أولى السير الذاتية في العالم العربي ثمة من يصنف كتاب “طبقات الأطباء” لابن أبي أصيبعة (1203-1269م) كتابا في السيرة الذاتية، وذلك في تتبعه حياة ابن سينا، كعلاقة هذا الطبيب الوثيقة مع طلابه، واعتداده بنفسه، وهو الذي كان يرى أنه لم تكن هناك مدينة بحجم ذكائه، وأنه كان لديه عادة أنه يعيد النظر بكل معارفه كل عشر سنوات، وكانت ذاكرته أهم مراجعه على الإطلاق.

السيرة الذاتية

مع ذلك فإن السيرة الذاتية ليست مرآة صاحبها فقط، أو ما يريد منها صاحبها ولها أن تقدمه، لأننا لا نكاد نرى في السيرة إلا ما يريد “وعي ولا وعي” الراوي إظهاره، وربما في أحيان كثيرة لا نرى فيما نقرأ، أو يخال لنا أننا نرى في المرآة إلا أنفسنا، فنحن على الأرجح – كما يقول محمد كامل الخطيب- إنما نقرأ في سير الآخرين سيرنا كما نرغب بأن نكون، أو كما نرغب بأن نكتبها، واصفين تجاربنا وحيواتنا، تاركين عبء “نرجسية” وصراحة السيرة الذاتية على الآخرين، إنها ببساطة تحويل مرآة الآخر إلى بديل لمرآة الذات، وربما يكون ذلك ضرباً من المكر النفسي والعقلي.. من هنا عندما كان تناول السيرة الذاتية لحياة ابن سينا في مسلسل درامي مصري، أنه لم يقدم ذلك الجانب المخفي من سيرة ابن سينا، وإنما كرّس المعروف من حياة تلك الشخصية، على العكس تماماً مما فعله الراحل ممدوح عدوان عندما أعاد قراءة سيرة الزير سالم قراءة تُخالف المعروف عنه، وذلك بأن خلع عنه أثواب الأسطورة، التي كانت تضيع شخصيته إن كان من “الآلهة” أم من البشر، وهذا الأمر لم يتوفر لعمل “أبو زيد الهلالي” الذي بقي يدور بقالب السيرة الشعبية المعروفة لدى الكثير من الناس، كما لم تقدم كل الأعمال الدرامية التي قُدمت عن شخصية (صلاح الدين) على سبيل المثال، والتي لم تُقدم أي جديد لا يعرفه حتى المتلقي العادي، إذ بقيت تلك الأعمال تدور بالمربع ذاته المتعارف عليه، والأمر ذاته لو قارنا بين مسلسل (أم كلثوم)، وبين العمل الذي قُدم عن (أديث بيايف) الفرنسية، ففيما كرّس العمل الأول “المهابة” المُتعارف عليها لأم كلثوم، بيّن العمل الآخر الجانب الشخصي الإنساني لبيايف، وكما بقي ( الزير سالم) تلك الشخصية المحببة في الذاكرة الشعبية بعد المسلسل هذا إن لم تزد، كذلك لم يُنقص كشف الجانب الإنساني لأديث بيايف من محبة الناس لها.

شيء من الذات

ثمة تعالق بين النص وكاتبه وهذه حقيقة مهما حاول الكاتب أن يزعم أن ثمة مسافة بينه وبين نصه، حتى عندما يكتب “المؤلف” عن الآخرين لابد أن يضع شيئاً من ذاته في تلك النصوص التي يكتبها عنهم، ومع ذلك فإنّ هذه “الكتابة الذاتية” تتشابك مع ذوات الآخرين في أكثر من منعطف، لتصير الأنا الجمعية هي الأخرى ظاهرة في العمل الإبداعي الحقيقي، ذلك النص الذي لا مفر لقارئه من أن يجد فيه شيئاً منه.. فالقصيدة رغم إغراقها في الذاتية؛ هي شيء شخصي يهم الآخرين، كما يردد أكثر من ناقد وشاعر، ومن هنا كانت تلك المحاولات لبعض النقاد، وحتى بعض القراء، أو المتلقي لأي نص إبداعي بما فيها اللوحة التشكيلية، والفيلم السينمائي في “القبض” على المبدع متلبساً وإسقاط وقائع النص على وقائع الكاتب، أو الفنان!

وحسب الروائي إبراهيم أصلان، فإن كل عمل إبداعي، وفي أي مجال من المجالات، هو سيرة على نحو أو آخر، حتى لو لم يتعلق الأمر بتجربة الكاتب، أو سيرته الشخصية.. ورغم هذا التقاطع بين هذه “الأنات” أو “الأنوات” فإن ثمة اتجاها اليوم لكتابة السيرة الذاتيةً، سواء كتبها الشخص- المؤلف ذاته عن نفسه، أو تمّ تكليف آخرين بكتابتها، وهذا الاتجاه ليس في الكتابة وحسب، بل في الإنتاج الدرامي والسينمائي أيضاً، وحتى في اللوحة التشكيلية، التي أخذت هي الأخرى هذا الجانب الشخصي، وثمة قراءات جديدة للوحات كبار الفنانين التشكيليين في العالم، تؤكد تصوير ذواتهم في الكثير من أعمالهم الفنية.

ونختم مع الشاعر السوري أحمد نصرة الذي يقول:

“أَكتبُ.. لأقتلَ نفسي في النص بتَماهٍ ندّيٍّ، وتناحريٍّ معه؛ غيَر آبهٍ بي، ولا به.

لأنتهي بعد كتابته إلى أنه أكثرُ تفاهةً من معادلة حياةٍ ناتجُها القسري يساوي الصفر؛

أُعزِّزُ تلك الابتسامةَ الباردةَ، أعُبُّ كأساً أخرى، وأرتمي بكامل جثتي على صدرك..

ثم أنطفي، وأذوي

كآخر سلالات

طفرة”.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار