“الطقطوقة” ليست فناً مبتذلاً و” الدّور” خرج من معطفها

تشرين – نضال بشارة:

غالباً ما يتم التهكم على القالب الغنائي “الطقطوقة” عند الحديث عن الأغاني الهابطة، بتوهم من المتهكمين بأن كل أغنية هابطة هي “طقطوقة” من دون أن يدروا أن المسألة ليست كذلك وأن تهكمهم يجافي الحقيقة، وربما معظمنا يجهل أن كثيراً من الأعمال التي نحبها ونحفظها ونرددها هي من هذا القالب. والأهم أن الذين لحّنوها والذين غنوها هم عمالقة التلحين والغناء العربي.. فما هي “الطقطوقة” ومقوماتها، وأشهر من لحّنها وغنّاها، ومن الذي طوّرها، وهل فعلاً ثمة حق في هذا التهكم؟

من أجل ذلك التقت “تشرين” الموسيقي والناقد أمين رومية رئيس نقابة الفنانين في حمص الذي أفادنا بإجابات ترفع غبار الاستخفاف بهذا القالب الغنائي الفريد، مشيراً إلى أهم الأعلام في تلحينها وغنائها.

أهازيج

بداية عاد بنا الفنان رومية تاريخياً وقال: إن مصطلح “الطقطوقة” حديث العهد, مصري المنشأ يعود إلى بداية القرن التاسع عشر, ولكن حداثة المصطلح لا تعني بالضرورة حداثة القالب, فالأهزوجة هي من مرادفات “الطقطوقة” ولون من ألوان الغناء الشعبي, تمت الإشارة إلى وجودها خلال العصر الأموي وربما وجدت قبل ذلك بكثير, عندما كان المغنون يضبطون بعض أغانيهم على إيقاع الهزج الموائم للألحان الخفيفة التي تفتقر إلى الصنعة الفنية (لحناً وشعراً )، وكان يطلق على هذا النوع من الغناء – الأهازيج – نظرا لبساطتها وخفتها، أما بنيتها الشعرية فهي عبارة عن: (مذهب – غصن1- غصن2 – غصن3)، وبنيتها اللحنية هي: لازمة موسيقية من جملة واحدة متكررة ثم مذهب ( غصن1 – مذهب – غصن2 – مذهب،) وجميع الأغصان مع المذهب لها اللحن ذاته ( مثال: يمامة حلوة ومنين أجيبا- تلحين محمد علي لعبة), وأول تغيير طرأ على تلحينها كان بأن أصبح لجميع الأغصان لحن واحد ولكن مختلف عن لحن المذهب (حبيت ولابانش عليا- تلحين محمد القصبجي 1927).

أمّا لماذا أطلق المصريون هذا المصطلح وما مبرراته؟ فيرى الموسيقي رومية أن “الطقاطيق” عبارة عن أغنيات غاية في البساطة والخفة, وتخلو من اللمسات الفنية. متحررة من فصاحة اللغة فتكتب باللهجة المحكية وتتخللها الفكاهة والهزل, ولا تخلو من الألفاظ غير اللائقة والغزل الفاضح في كثير من الأحيان، وكانت تغنى ضمن الوصلات الغنائية التي تقدم في المنازل وبعض المقاهي على سبيل التنويع، لإشاعة جو من المرح والبهجة. ومع دخول الأسطوانة إلى مصر عام 1903 أصبحت “الطقطوقة” أكثر انتشاراً ورواجاً بتشجيع من أصحاب شركات الأسطوانات الذين يبغون كسب المال ولا شيء غيره، وهناك أمثلة كثيرة مما كان يُغنى من “الطقاطيق” من تلحين أشهر ملحني ذلك العصر أمثال : سيد درويش – داوود حسني – زكريا أحمد – محمد القصبجي – محمد علي لعبة – صبري النجريدي), وغناء منيرة المهدية ونعيمة المصرية وأم كلثوم وغيرهن.

ويستحضر لنا رومية الانتقاد الحاد “للطقاطيق”، الذي كان من الموسيقي ومدير معهد الموسيقا العربية آنذاك “اسكندر شلفون” المتوفى سنة 1934 والذي استشاط غضباً ووصفها بأقذع الألفاظ في أحد مقالاته حيث قال: “الطقطوقة هي أحقر وأحط وأسخف ما وصلت إليه ألحان الموسيقا المصرية”.. لكن كيف يقرأ الفنان رومية أسباب هذا الاتهام للطقطوقة، فيقول:

ربما كان رأي “شلفون” ينطوي على الكثير من الواقعية بالنسبة للطقطوقة في تلك الفترة, ولكن الذوق العام السائد آنذاك والبيئة المصرية لم يكونا يرفضان أو يعارضان هذا النوع من الغناء. إلا أن هناك شريحة كبيرة من الجمهور العربي تتماهى مع موقف الناقد شلفون, ومازال حتى يومنا هذا يظن البعض أن الطقطوقة أغنية ليس لها أي قيمة فنية ولا تستحق الاهتمام، ويعود ذلك في تقديري إلى المصطلح ذاته الـ”طقطوقة ” الذي يعني الخفة والسطحية, والذي رافق هذا القالب حتى اليوم, ما ألحق الإساءة بهذا القالب الغنائي الأصيل.

الشعر يطور ” الطقطوقة”

أمّا متى تطوّر هذا القالب وعلى يد من، فيقول رومية: كانت مصر في الربع الثاني من القرن العشرين على موعد مع نهضة غنائية ساهمت في تغيير وجه الغناء العربي قادها نخبة من شعراء العامية الذين تصدوا لقالب الطقطوقة أمثال (بيرم التونسي، بديع خيري، أحمد رامي، ويونس القاضي الذي عين في تلك الأثناء رقيباً على الأغاني لمراجعتها قبل طبعها على الأسطوانات وتسويقها), وذلك نتيجة للتحولات الفكرية والاجتماعية والثقافية التي ساهمت في تطور الذائقة الفنية لدى المتلقي. واللافت أن الملحنين الذين لحنوا “الطقاطيق”, التي نال منها اسكندر شلفون في مقاله, هم من انتشل الطقطوقة من مستنقع الركاكة والابتذال عندما توفر لهم الشعر الرفيع لتصبح الطقطوقة المنافس الأقوى لأعرق قوالب الغناء العربي كالموشح والقصيدة والدور- الذي خرج من عباءة الطقطوقة- على يد الملحن المعروف عبد الرحيم المسلوب خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر واكتملت أركانه علي يد الملحن محمد عثمان والمطرب عبده الحامولي.

إيقاعات مركبة

ونسأل عن دور “سيد درويش” وعن الملحن الذي قدّم نقلة نوعية فيها، فيجيب رومية: تعامل سيد درويش مع هذا القالب بشكل تقليدي من حيث الشكل، لكنه جدّد فيه من حيث المحتوى, فهو صاحب رسالة إنسانية وهو الذي عاش حاملاً هموم الشعب المصري البسيط المتعب، معبراً عن معاناته ومنتصراً لقضاياه (شد الحزام على وسطك- القلل القناوي ).

وكان “زكريا أحمد” أول من تمرد على هذا القالب وأخرج الطقطوقة من دائرة الخفة والرتابة, ففي عام 1931 قدم طقطوقة “اللي حبك ياهناه” بطريقة مبتكرة، حيث وضع لكل غصن لحناً مختلفاً عن بقية الأغصان واستمر في محاولاته لإيجاد طقطوقة محكمة الصنعة لحناً وإيقاعاً (استخدم إيقاعات مركبة بالإضافة إلى تعدد مقاماتها), ولكنها تحتاج إلى مطربين متمكنين كي يستطيعوا غناءها  أما آخر أعماله في هذا القالب فكان طقطوقة (هو صحيح الهوى غلاب) لأم كلثوم، ما جعل جميع الملحنين يقتدون بابتكاره هذا. وكان القصبجي أول من تبنى الشكل الجديد فقدم أعمالاً متقدمة جداً حملت بعض سمات المونولوج واعتمد في بعض “الطقاطيق” على اللوازم الموسيقية بدلاً من الكورس (مدام تحب بتنكر ليه)، ولحّن داوود حسني أيضاً ( جنة نعيمي في هواكي) لأم كلثوم)، وكذلك فعل محمد عبد الوهاب المتطلع دائماً إلى كل جديد يمكن أن يُغني الغناء العربي فقدم طقطوقة (إنسى الدنيا وريح بالك)، مستخدماً فيها آلة الغيتار (إيه انكتب لي ياروحي معاكي ), أما رياض السنباطي فكانت له مساهمات كبيرة جداً في هذا القالب وقد بدا تأثره واضحاً بألحان القصبجي وزكريا أحمد (إفرح ياقلبي)، التي اهتم بمقدمتها الموسيقية فجعلها تنبض بالحيوية (حئابلو بكرا- الحب كده..). وخلال النصف الثاني من القرن العشرين بات الغالب الأعم مما تم إنتاجه من غناء عربي ( الكثير من أغاني السيدة فيروز ووديع الصافي وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ ونجاة الصغيرة..) هو ضمن قالب الطقطوقة.

وفي ختام هذا التحليل رأى الفنان رومية أن الجهل بالقيمة الفنية الحقيقية لهذا القالب ساهم في تكريس وجهة النظر السلبية تجاه هذا النوع من الغناء المتقن الذي ليس بمقدور أحد تأديته إلا إذا كان ذا صوت صحيح المقامات وكان مدربا أفضل تدريب.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار