الاقتصاد العالمي بين الركود التضخمي والتصحر الإداري سنة 2022..!
أمتلك الجرأة العلمية لأقول: كنت مخطئاً عندما اقتنعت وكتبت مرة أن (للاقتصاد قلباً وروحاً) وتبين لي لاحقاً أن علم الاقتصاد هو علم مهني حيادي، رغم تأثره بالعقيدة الإيديولوجية، وأعرف أن الكثير يختلفون معي، وهذا حقهم وخاصة (رفاقنا الشيوعيين)، وهنا تجدر الإشارة إلى أني تخلصت أو خرجت من دائرة أسئلة كبيرة شاقة كانت تؤرقني عندما اعتبرت أن علم الاقتصاد يعتمد على الربط المباشر بين الإجراءات والعمل الماضي والنتائج الحالية، وأنه علم كئيب يعتمد على الأسئلة أكثر من الأجوبة وعلى أن دوام الحال من المُحال كما يقولون، فمن يقتنع أن ما تشهده الاقتصاديات الغربية حالياً يناقض ما عبرّ عنه العالم الاقتصادي الأمريكي الليبرالي الكبير (ميلتون فريدمان الذي عاش بين 1912 2006) وكان من أهم علماء مدرسة (شيكاغو) الليبرالية وحصل على جائزة (نوبل) سنة 1976 من خلال مساهماته الرائعة في (تحليل مستويات الاستهلاك والمعروض النقدي وسياسات التوازن الاقتصادي)، وكتب سنة 1954 أن (الاقتصاد الأمريكي محصن ضد الكساد)..! ولكن تؤكد الوقائع الحالية أن قوانين الاقتصاد الموضوعية تعمل بغضّ النظر عن الرغبات والأمنيات، وأن ألدّ أعداء علم الاقتصاد هو تجاهل المسيرة التراكمية (الاستثمارية والعقلية) أي (القوة الإنتاجية والفكرية) وتجاهل الخبرات الإدارية (التصحر الإداري)، فأمريكا التي كان لها السبق في (الإدارة وبراءات الاختراع) بدأت بعض الدول تسبقها في الكثير من المجالات، وهذا لايعني التقليل من القوة الأمريكية وحتى أقول: إن معالم سيطرة القطبية الأحادية وتكوّن نظام عالمي جديد بدأت لكنها تسير ببطء، وبالعودة إلى عالمنا (فريدمان) ودحض رؤيته حول أنه لايوجد اقتصاد محصن ضد الكساد.. وهذا لا يقلل من قيمته العلمية الكبيرة ومعززة لكثرة الأرقام التي سأستخدمها وأعرف أنها مملة لكنها ضرورية، لكن منذ أيام أكد تقرير صادر عن (صندوق النقد الدولي International Monetary Fund) يؤكد أن الاقتصاد الأمريكي ورغم تأثره بتداعيات (كورونا) لايزال الأول في العالم وأن قيمة الناتج المحلي الإجمالي له سنة 2022 سيكون أكثر من 20 تريليون دولار وبنسبة 24% من قيمة الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ورغم هذا بدأت معالم الوهن الاقتصادي النسبي تظهر بشكل واضح على البنية الهيكلية الاقتصادية الأمريكية، حيث بدأت تداعيات (الركود التضخمي Stagflation) تتغلغل تدريجياً في مفاصل هذا الاقتصاد والاقتصاديات الغربية التابعة له أيضاً، وأكدت دراسة صادرة عن مكتب (التحليل الاقتصادي الأميركي) على دخول الاقتصاد الأمريكي حالة الركود الاقتصادي حيث إن معدل النمو سالب وتراجع إلى (ناقص 1،5%) خلال الربعين الأولين من سنة 2022 وارتفع معدل التضخم ولأول مرة منذ 40 سنة إلى حدود 9% وزادت أسعار المحروقات حوالي 50% وأسعار السيارات القديمة وغيرها.. وأمريكا حالياً هي أكبر دولة مدينة في العالم وقد يكون السبب هو انتقالها من (الاقتصاد الإنتاجي السلعي) إلى (الاقتصاد المالي التوريقي)، وقد بدا هذا واضحاً بعد العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا وفشل الحصار والعقوبات الاقتصادية الغربية على الكثير من دول العالم، فهل أصبحت أمريكا وأوروبا بين صدمتي سندان (العرض الإنتاجي الكلي) المتراجع ومطرقة (الطلب المجتمعي المتزايد) على حدّ تعبير عالمنا الاقتصادي الكبير (جون ماينارد كينز)؟ وأن الرأسمالية المتوحشة بدأت تحفر قبرها بيدها على حدّ قول العالم الكبير (كارل ماركس) أم إن (أظافر الليبرالية) وهي أعلى مراحل الرأسمالية بدأت تضعف كما قال (فلاديمير إيليتش لينين)؟! وزادت قناعتي بأزمة الاقتصاد العالمي المتدحرجة من دولة لأخرى وقارة لأخرى هي أشبه بكرة الثلج والنار كلما تدحرجت كبرت، ولاسيما مع فشل المؤسستين الدوليتين الكبيرتين (البنك الدولي وصندوق النقد) من إيجادهما لسبل علاج ناجعة، والدليل على ذلك أنه خلال الاجتماع السنوي للمؤسستين بتاريخ 23/9/2022 صرحت مديرة الصندوق السيدة (كري ستالينا غور غيفا) أن نمو الاقتصاد العالمي سيتراجع من 6% سنة 2021 إلى 3،2% سنة 2022 وإلى 2،7% سنة 2023، وأن معدلات التضخم العالمي سترتفع من 4،5% إلى حوالي 9% وسيؤدي هذا إلى زيادة التهميش المجتمعي وتراجع الخدمات الاجتماعية والدعم الحكومي وخاصة في الدول الفقيرة، كما أكد ذلك السيد (ديفيد مالباس)، أن (العالم سيواجه الموجة الخامسة من أزمة الديون والتي بدأت منذ سنة 1970، ودعا إلى تقديم المزيد من الدعم إلى الدول التي تعاني الصعوبات المالية وخاصة أنه في سنة 2022 تجاوزت الديون العالمية 300 تريليون دولار أي ما يقارب 15 ضعفاً للإنتاج الأمريكي السنوي الإجمالي !.
أما على صعيد الاقتصاد (الأنجلو ساكسوني) أي الأمريكي والبريطاني فالأزمة تتفاقم، فقد أكد جيروم باول رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي أن البنك الفيدرالي الأمريكي لم ينجح ولا مرة منذ الحرب العالمية الثانية في معالجة (الهبوط الناعم) حتى عندما كان معدل التضخم بحدود 5% والآن هو بحدود 9%، كما تدخل بنك (إنكلترا) وتقديمه حوافز طارئة لتهدئة الأسواق البريطانية وخاصة من ناحية ارتفاع معدلات الركود والتضخم (الركود التضخمي) ويعبر هذا عن نفسه بتداعيات اقتصادية عالمية خطرة نذكر منها على سبيل المثال وليس الحصر: [تراجع معدل النمو والناتج الإجمالي العالمي والإفراط في الإصدار النقدي وارتفاع معدلات التضخم والأسعار – زيادة الانهيارات النقدية والمالية والائتمانية المصرفية – زيادة معدلات البطالة بسبب تراجع فعالية عمل سلاسل التوريد والتجارة الدولية – زيادة معدلات التهميش المجتمعية والدولية وخاصة على الفقراء وتآكل مدخراتهم ودخلهم، وكأن التضخم هو ضريبة يدفعها الفقراء لمصلحة الأغنياء – ارتفاع أسعار الفائدة أي سعر إقراض الأموال وخاصة مع زيادة قيمة الديون المشكوك في تحصيلها والديون المعدومة – زيادة حالات الإفلاس للدول والشركات – تراجع الاستثمارات العالمية بسبب سيطرة حالة عدم اليقين وخاصة في أسعار الصرف أي سعر عملة مقابل عملة أخرى – تراجع عمل البورصات الدولية وأسعار الأسهم]، وهنا نسأل بل نتساءل: هل كل هذه التداعيات من جراء صدمة الحرب الروسية-الأوكرانية ؟! أم توجد أسباب اقتصادية هيكلية عميقة مرتبطة بالطابع الاستغلالي للرأسمالية المتوحشة؟! وهذا الواقع يدعو كل دول العالم للاتعاظ ونحن منهم وضرورة اختيار نموذج اقتصادي يناسبنا والاهتمام بمواردنا وفي الدرجة الأولى مواردنا البشرية وهي التي تقود كل العمليات الاقتصادية، حيث إن كثيراً من الدول تراجعت بسبب إهمال كوادرها ما أوقعها في التصحر الإداري، ويبقى أن نقول: إن الدراسات الاقتصادية أكدت أن (الصحراء موجودة فقط في ذهن الإنسان) وأن التطور والتطوير يبدأان من المزج العقلاني بين الإدارة والإرادة أي إدارة الموارد والإرادة الوطنية للوصول نحو الأفضل.