سبعونَ عاماً من الحداثة.. أو مقارعة طواحين الهواء!
تشرين- زيد قطريب:
العنوان يبدو مغرياً!. فلوحة «”كفر جنة» لفاتح المدرس المعروضة سنة 1952 لن تختلف عن قصيدة «مطر» للسياب أو قصيدة نازك الملائكة «كوليرا» المكتوبتين أواخر 1949، فالقضية هنا متعلقة بشقّ عصا الطاعة على التقليد وضرورة اغتيال الأسلاف إبداعياً.
بالنسبة للتقليديين، ينحازون إلى اجترار الماضي بلا تفكير، فهو أسهل من الابتكار ورجّ سطح البحيرات الساكنة بوابلٍ من دوائر الموج كي تمعن الحتّ في صخور الشواطئ المستسلمة لعدم الإبحار. كان من الطبيعي أن يتلقى فاتح المدرس الانتقاد ومحاولات الوأد في بداية تجربته التي لم تستأذن أحداً، وكان من الطبيعي أن يختطّ نهجاً جديداً في سكب دلاء الألوان ورشّها بإصرار فوق الرماديات.
تظاهرة مهمة في مضامينها، لو أحسنّا العبور إلى الجوهر.. فنحن في الحقيقة أناسٌ ماضويون نحتفل بالحداثة التي لم تزرنا إلا في نبوءات الفنانين والشعراء الذين استشرفوا الآفاق لكن لم يسمعهم أحد.. سبعون عاماً من الحداثة في التشكيل، اقتضت استرجاع منحوتاتنا الأولى في أوغاريت وإيبلا وسومر وآشور، تلك الجذور التراثية التي لم نحسن الوصل معها إلا فيما ندر، كانت تمثل فرادتنا وهويتنا الشخصية التي نواجه بها العالم. احتفاء بأعمال ألفرد حتمل، عز الدين همت، عبد الكريم فرج.. وشهادات تقدير لعبد السلام قطرميز ومجدي الكزبري وطلال العبد الله في أوبرا دمشق بحضور وزيرة الثقافة لبانة مشوح وحشد من المهتمين بهاجس التجديد. «سبعون عاماً من الحداثة» وأكثر من ألف سنة من التقليد. المعادلة غير متكافئة بين مرسم فاتح المدرس في قبو قرب ساحة النجمة، والأبنية الفارهة التي تعتاش على المتاجرة بالعقل..أليس من الطبيعي أن يكتب الإنسان القديم أدباً قديماً ويرسم لوحةً قديمة، ويعزف موسيقا قديمة؟.
الموسم الخامس لأيام الفن التشكيلي السوري، تستحق الرهبة، فلوحة كفر جنة التي رسمها المعلم فاتح المدرس تشكل تواصلاً مع ما يصنعه طلال العبد الله وهو يحفر في صخر المعاني.. طلال الابن، مع المعلم الأستاذ، في المنهج والمصبّات الأخيرة لمياه الينابيع كي لا تضيع المياه في عرض البحر.
أمسية مختلفة وبهية زيّنها المايسترو عدنان فتح الله مع فرقته بمعزوفات أُلفت خصيصاً للمناسبة.. وكان السؤال دائماً يتعلق بكيفية استخراج الموسيقا من اللون، والشعر من تفاصيل الخط، أولئك الذين يبدعون على هوامش الحياة من دون أن ينتبه إليهم أحد، لا يختلفون عن الأعشاب البرية التي تسبق الجميع في النموّ كي تعلن عن قدوم الربيع.
نحتاج إلى أسئلة الفنون، وإلى شقّ المدى بعيون زرقاء يمامة الرسم.. إنه الفن الذي يؤكد في كل مرة أننا أمة عصيّة على الموت!.