في ملحمة تشرين البطولية .. اكتشافات دفاعية مقتبسة من الآثار السورية
تشرين- بارعة جمعة:
هي أشبه بمعجزة سطرها التاريخ العربي، حالة من الانسجام البطولي بين جيشين عربيين سطرا أروع الملاحم البطولية، التي أكدت إرادة الشعب بالاستقلال، وأمام هذا الإنجاز تطالعنا تلك الآثار السورية التي كانت هدفاً لهذا العدو، الذي أخذ على نفسه اليوم فرض نظم جديدة اتسمت بالعولمة.. كل هذا والعديد من التساؤلات كانت ضمن جلسة سردية للدكتور والخبير في عالم الآثار محمود السيد في ضيافة مركز ثقافي أبو رمانة، وحوار الإعلامي والناقد علام عبد الهادي، تضمنت قراءات تاريخية أثبتت توغل هذا العدو في تراثنا واستخدامه أداة للحرب على أوطاننا.
اقتحام وانتصار
قلب الموازين والمغامرة وعبقرية المناورة، هي سمة الانتصار في حرب تشرين التحريرية، رغم شراسة العدو الذي أنهك الشعب متعمداً سرقة تراثه وتاريخه الكامن ضمن المتاحف، ومدعياً أنه صاحب الحق به، مناظرة جمعت بين الماضي والحاضر قدمها الناقد علام عبد الهادي، واصفاً ما يقوم عليه فكر العدو من اجتزاء للحقوق المشروعة لأصحابها وسرقة تراثهم وأمجادهم السابقة.
إلا أن ما قام به الجيش بعد عقود طويلة الحرب، ابتداءً بالفرنسيين ومروراً بالعثمانيين وغيرهم، استطاع من خلاله النأي بنفسه عن المنزلقات الكبرى التي عصفت به وبدول الجوار، مستخدماً قيادته المبدعة للتحكم بمسار الأمور ونيل الاستقلال، الذي تمثل بكسر أعتى حصون العدو المجهزة والمعدة بإشراف رئيس هيئة أركانه حايين بارليف.
خطط دفاعية
فكرة الساتر الترابي الذي طبقه العدو إنشائياً بنقاط حراسة وبوابات، ما هي إلا تعدٍّ على تاريخ وتراث شعوب المنطقة برمتها، حقيقة أكدها الدكتور محمود السيد، مستعرضاً ما قام به العدو من استغلال للعوامل الجغرافية وتضاريس الأرض لإنشاء خط دفاعي، جمع بين الحائط الترابي وقوة الخراسانات المحصنة، إلى جانب عائق الماء الطبيعي المتمثل بقناة السويس، في حين شكلت زاوية الارتكاز الطبيعي لهذا الخط خاصية هندسية تعتمد على طبيعة المواد المشكلة لها، هي دراسة للماضي السوري تحصن بها العدو ضمن معركته التي خاضها فخسر الرهان، لتبقى التساؤلات حاضرة حتى اليوم حول أهمية دراسة الماضي وأخذ العبر لصنع المستقبل.
فاللجوء إلى فكرة خط “بارليف” ما هو إلا استنباط لفكرة مملكة “قطنة” السورية، التي عرفت بضخامة أسوارها الترابية الأربعة، مشكلة حالة دفاعية أثرية في القرن الثاني ق. م، ومحاطة بخنادق لإظهار قوة وجبروت هذه المملكة وحمايتها من سهام رماة العدو، وجعل فكرة استخدام أسلحة وحفر فنادق غير فعالة، كالتي اعتمدها “بارليف’ في إقامة وتجهيز هذا الخط ضمن الحرب.
أمام هذه التقنيات الكبيرة في حماية المماليك القديمة نفسها يقف السيد متسائلاً:. هل نحن نعود إلى تاريخنا في الوقت الذي يستثمر فيه العدو هذا التاريخ لبناء ثقافته وأنظمته وتجاربه الدفاعية والهجومية أيضاً؟! وأين نحن من كل هذه الآثار التي طوعت لمحاربتنا لا حمايتنا؟
وفي قراءة تاريخية أخرى عن الجسور العائمة المقتبسة من الآثار الرومانية، باستخدام مجموعة قوارب متقاربة والتي شكلت جسراً للعبور في الحرب ” الداتشية”، والمصممة من المهندس السوري مروان لوستان، يجد السيد إثباتاً آخر على عمق الجذور السورية الضاربة بأعماق التاريخ باستخدام الوسائل الدفاعية وتجسيدها من قبل العدو نفسه.
معلومات مغلوطة
ولعل أكثر ما يواجهنا اليوم هو ما يصل إلينا من علوم فارغة المضمون ،من دون النظر لأهمية علم الآثار نفسه في اكتشافات كبيرة طالت كل أنواع العلوم الأخرى، لا بل أثبتت نظريات عدة تتعلق بالهندسة والتحليل الكيميائي ورصد الزلازل وعلم الطب القائم بشكل أساسي على دراسة مخلفات الإنسان العضوية وتحديد طبيعة منشئه من خلالها، إلا أن ما يثير الدهشة أكثر برأي السيد هو اعتماد الجامعات في دراستها الحديثة على علوم لا تمت للآثار بصلة، ولا تتضمن التكنولوجيا الحديثة التي يقوم عليها هذا العلم بحد ذاته.
ولعل الجدلية القائمة على تسمية “أوغاريت” هي الدليل الأكبر على نقل مفاهيم مغلوطة، في حين تبرز أيضاً أهمية الدقة في نقل المعلومة من مصادرها الأصلية وفقاً للتراتبية الزمنية، وهو ما يهدد أسبقية سورية في كثير من الإنجازات، فالتراث السوري يرتبط بذاكرة الإنسان كما ينتهي بزوالها، ويمثل جزءاً من الوعي السياسي والاجتماعي، والضامن للاستمرارية وتحقيق التوازن بين الماضي والحاضر والمستقبل، في حين نفتقد اليوم أيضاً تفعيله ضمن وسائل الإعلام.
كما تشكل مسألة غياب الرؤية وتهميش فكرة المعلم، والمناهج الجديدة التي اعتمدت مبدأ التعتيم وتضليل التاريخ بحجب الحقائق الجديدة، والذي يؤكده عدم معرفة أغلبيتنا بهذه المعلومات التي تحكى لأول مرة، السبب في ضعف المعارف لدينا برأي الناقد علام عبد الهادي، عدا اعتماد وفرض مناهج جديدة حرفت بوصلة التاريخ الذي يربط الماضي بالحاضر، والذي تجلى ضمن سنوات العقد المنصرم من الحرب السورية، التي ركزت على نسف المعارف السورية كلها وطمس ما تبقى منها، والتي محملها هو العقل السوري عبر قرون طويلة.