” فارس الرؤيا الآخر ” استخلصت روح رواّد قصيدة التّفعيلة
تشرين-نضال بشارة:
توافقت بالمصادفة رغبة رئيس اتحاد الكتّاب العرب الدكتور محمد الحوراني، مع ما طرحناه في مقالة دعت إلى طباعة كتب الراحلين، فأثمرت أولاً طباعة ديوان للشاعر الراحل مصطفى خضر “فارس الرؤيا الآخر” فتعاونا مع عائلته من خلال ابنته الأستاذة سلام التي سلمتنا نسخة منه بوساطة صور على “الواتس آب”، التي أرسلناها للشاعر المغترب الدكتور حسان الجودي نقترح عليه كتابة مقدمة له، فأبدى استعداده بشكل مضاعف إذ أخذ على عاتقه مهمة تنضيده إلكترونياً، وقد حظي الديوان بمتابعة دؤوبة من رئيسة المكتب الفرعي للاتحاد في حمص الأديبة أميمة إبراهيم التي افتتحت الجلسة الاحتفائية بالديوان بقراءة مقدمة الشاعر الجودي.
تحوّلات ثقافية
نقتطف من المقدمة ما يسوّغ نشرها كرد على كل من استنكر علينا نشرها للشاعر الراحل: إنَّ المخطوطة المذكورة، هي إنجازٌ شعريٌّ مهم. إذا ما تمّ اعتبار شرطها الزّمني. لأنها كتبت في فترة السّتينيات. تلك الفترة التي شهدتْ تحوّلاتٍ ثقافية مهمّة في الوطن العربي عامة، واستطاعت شعرياً استخلاصَ روح رواّد قصيدة التّفعيلة، ثمَّ تابعتْ إنضاج تجربة الحداثة الشّعرية التي جاء بها الرّوّاد، فظهر شعراء سوريّون مهمّون مثل شوقي بغدادي، عبد الكريم النّاعم، فايز خضور، علي الجندي، ممدوح السّكاف، مصطفى خضر، وغيرهم. تضمُّ المخطوطةُ مجموعةً من القصائد قام الشّاعر الرّاحل بنشرها مع بداية المرحلة الثّانوية ونهايتها (فترة السّتينيات) على صفحات مجلّة (المعارف) المحتجبة مثل (أغنية السّاعات المحطّمة) و(التّكوين اللّا مجدي) و(بدويٌّ بلا آلهة). كما نشرتْ مجلّة (الآداب) قصائده مثل (رحلة العربيّ) و(التّلوّث والمنفى) و(خليّة العرّاف) بالإضافة إلى قصيدة (الظّهور) في عددٍ عن الشّعر العربيّ الحديث. وظهرت قصيدة (عرّاف الرّيح) وقصيدة (القبول) على صفحات مجلّة (حوار). وأثارت هذه القصائد التي ظهرت في أوقات متقاربة مع مطالع السّتينيّات ردود أفعالٍ واستجاباتٍ مختلفة في الصّحافة الثّقافيّة اللّبنانيّة والمصريّة والسّوريّة وغيرها. لقد رصد الشّاعر الرّاحل عبر قصائده تحوّلاته، وصاغ أسئلته الشّعرية، معتمداً على أدوات ومنطق الفلسفة ذاتها: السّؤال، والشّك، والتّحليل والتّركيب، والنّقد، والتّفنيد. ويبدو إخراج هذه المخطوطة الشّعرية إلى الحياة، لائقاً تماماً برؤاه الفلسفية العميقة.
إضاءات
وقد شارك في جلسة الاحتفاء بصدور ديوان ” فارس الرؤيا الآخر” للشاعر الراحل مصطفى خضر (1944 – 2019) أربعة أدباء، وقد تجسدت تجربة الراحل خضر في (17) كتاباً، (12) منها دواوين شعرية للكبار، أولها (فارس الرؤيا الآخر) 1968 ، وآخر ما صدر له ( حجارة الشاعر) 2003. وفي شعر الأطفال (دفتر النهار) 1986، (أنشودة الأرض) 1987. وفي الدراسات: الشعر والهوية – 1990، الحداثة كسؤال هوية ـ 1996، الخطاب والنقد ـ 2001. قرأ أولاً الشاعر إياد خزعل مساهمته التي توقفت بقراءة أولية مع قصيدة “عرّاف الريح” التي هي أولى قصائد الديوان، فرأى أن المستوى النحوي للقصيدة يفيد بأن الجمل الاسمية تنحو نحو التقرير الذي يميل إلى الثبات، وكأنها حقيقة لا تقبل الشك. فالتقرير واضح في مطلع القصيدة، فالعرّاف الذي بمفهومه اللغوي يدّعي معرفة المستقبل يقرر حالته الذاتية، فهو يجابه الزمن في رحلة (دينكوشيتية) يسردها بضمير المتكلم، أمّا الجملُ الفعلية فأغلبها جاءت في موقع الخبر( المسند)، وكأنها دليل على استمرار حالة (المسند إليه)، خاصة أن أغلبها جاء في صيغة المضارع. وعلى صعيد المستوى الصرفي رأى خزعل أن الشاعر خضر قد أكثر من إيراد المصادر وأسماء الذوات (جسد، سقطة، دعة، لغة، …..) إضافة إلى المشتقات، وهذا جعل النص في تناوب بين سكونية الأسماء وحركية المشتقات والأفعال مما أعطى النص حيوية ونبضاً وتناسق ذلك كله مع أساليب الاستفهام والنفي والنهي وغيرها. ورأى خزعل أن مقولة النص النهائية تعبّر عن عبثية الاستشراف، لأن الريح ستظل في تقلباتها، ولا أحد يدرك إلى أين ستمضي، فيعود العرّاف حزيناً، متلهفاً إلى الطفلة التي عادت، وفي استعماله عبارة (العالم السفليّ) ربما يرمز إلى الأنثى المخلّصة التي تغامر كي تنقذه من العالم السفليّ المخيف، فيحرق تاريخه، لكنه يرى نفسه أطلالاً تتلاشي. وتناولت الشاعرة ريما خضر في إضاءتها المقتضبة، كما وَسَمتها، مضامين اللغة وتأويلها في محورين أساسيين، محور الدلالات اللفظية في بعض القصائد، ومحور التأثير الاجتماعي الذي أراده الشاعر، وصوره الشعرية. كما أشارت إلى فلسفة الموت التي تناولها الشاعر الراحل خضر في أكثر من قصيدة من قصائد الديوان.
مناخ تعبيري
أمّا الشاعر طالب همّاش فعدّ الشاعر الراحل من الشعراء الذين استطاعوا ترقيص اللغة وملاعبة الأوزان بمهارات إيقاعية وأدهشونا على مستوى الشكل الفني. كما أشار إلى أن الشاعر الراحل مصفى خضر من الذين استبدلوا وحييهم الشعري بالشبح، فالشبح لا الوحي توأم الشاعر البعيد. وتساءل في سياق إضاءته كيف استطاع الشاعر خضر ولم يكن قد بلع العشرين أن يدرك فاجع الحياة وأن يقول كلمة الألم في قصائده؟! كما أشار همّاش إلى أن خضر ومنذ بواكيره في هذا الديوان شدّه المناخ التعبيري المأزوم إلى تأسيس علاقة متوترة مع اللغة وبعيداً عن المعجمية، كي تستجيب إلى طموح نصّه الشعري تمثلت في سلال المعاني التي نلحظها في قصائده. وختام هذه الجلسة الأدبية الاحتفائية كانت مع الأديب سلمان إسماعيل الذي أشار إلى أنه تمنى لو أن قصائد الديوان قد رتبت ترتيباً زمنياً لنلحظ التغييرات التي طرأت على شاعرية الفتى مصطفى الذي تبنته مجلات عدة ونشرت له في كل عدد قصيدة، كما أشار إلى تمكن الشاعر من اللغة رغم أنه لم يأت من دراستها ودراسة آدابها فهو درس الفلسفة ورغم ذلك تميّز باستخدامها وأبدع فيها. ونشير للأديب
سلمان إلى أننا التزمنا بنشر القصائد كما رتبها ونسقها الشاعر الراحل فديوانه كان منجزاً للطباعة، فنحن لم نتدخل في هذه المسألة. ونأمل أن يلقى الديوان مقاربة نقدية أعمق من هذه الجلسة الاحتفائية، وفق إشارة من ساهم فيها أيضاً.