حبيب علي يقصّ حكايات العطر والخريف المتراكم في سلال الزيتون

راوية زاهر
(حكاية عطر ) المجموعة الشعرية الثالثة للشاعر حبيب محمد علي، فقد سبقتها بالصدور مجموعتان شعريتان للشاعر بعناوين باذخة: (أدراج المطر، وخوابي الغزل).. وفي الأخيرة سنتوقف بين طيات العشق الساكن فيها، والحنين إلى صلب التكوين وخلايا الكأس وصدى الشوق لذكرى الراحلين.. (حكاية عطر) عنوان للمجموعة الشعرية وما هو إلاّ قصيدة بعطر البنفسج ولون الريح عنّون شاعرنا مجموعته بها وختم بحروفها الغارقة في الطيب والنرجس ورائحة المطر عجز مجموعته..

في العنوان
(حكاية عطر)؛ عتبة نصية لمجموعة شعرية تنام ملء جفونها في أحضان الريف البعيد، برقرقة مياهه وزقزقة طيره وتهميش أوجاعه لحناً موسيقياً يعزف أبدية الخلود بين الفصول، روابي الحنين، وعرائش الكروم.
“خذيني إلى ماتبقى
من حقول البنفسج
ربما تكذب الأساطيرُ
الحبّ
الغيومُ
الأيامُ
عطركِ..”
واحد وثلاثون نصاً لمجموعة تنام حروفها وتستفيق على وقع الانتظار ، موشّاة بشال القصب ململمة الوجوه والأقنعة، مرمية في بلاغة الصمت، تحيك الحب تميمة، وملقيةٌ بشلالات الألماس في أول سطر على جسر العبور، وبمشهد روائي تنزف عشق الراحلين.
وعلى مفارق الضياع تنثر حكاية العطر حروفاً عابثة في رسالة إلى عاشقٍ امتلك جلال الحب، وأرخى سدول الظلام على قبر رُكن وحيداً على درب التّرحال.

قيد الانتظار
كان للانتظار عند الشاعر فلسفة خاصة، كثرت الحالة وتشظى اللفظ، ليكون انتظاراً بلون الحضور والربيع والحبّ والأغاني التي خلّفها الشهداء والعاشقون لمحبوباتهم.
“متى تمطر ُ ربيعاً وفاكهةً؟
فقد اشتقتُ لحبيبتي
وعودها تدغدغ ذاكرتي
والحلم قيد انتظار.”
وأمام كوخ القصب والخريف المتراكم في سلال الزيتون؛ يرمينا الشاعر الذي يعيش الريف البعيد في عمق ضميره، وتعبق النرجسة في رحابة ذاكرته لتتعلم الرقص ويهيئ لنا مخدعاً من قصب فيقول:
“أيّها الخريف المتراكم
في سلال الزيتون
أخذت كل القصب
النرجسةُ بدأت ترتجف
هي لا ترقصُ
تتوق لأرسم لها
كوخاً من القصب.”
وعلى وقع الخواتيم المصاحبة للدهشة يقذفنا الشاعر متلبسين بالذهول المفتوح في نهاية كل قصيدة.

عن اللغة
تأثر الشاعر بشكل جليّ ببيئته التي نشأ فيها، بيئة ريفية بسيطة، فحضور لغة الأطيار وألفاظ الطبيعة بشكل كثيف يشي بتعلق الشاعر بالمكان وخاصة أنه مكان شاعري يدغدع ذاكرته ويستنفر قوافي القصيد،
من قبيل (الأرض، السنابل، البنفسج، النرجس، البيادر، النجوم، الرمان، طائر الورور، الموقد الحنون، القمح).. ألفاظ تعكس حالةً من التماهي مع الطبيعة وبثها كل لواعج النفس من دون تردد، فالعلاقة وثيقة جداً مع مكونات المكان وعوالمه السحرية الخاصة.. استخدم الشاعر لغة شاعرية مكتنزة الدلالة، وانزياحات لفظية هائلة التكثيف توحي لا بل تؤكد امتلاك الشاعر ثقافة عالية، ومفاتيح اللفظ والمعنى ومعنى المعنى، محلقاً بأجنحة الخيال عالياً بصورٍ شعرية ثرية واستعارات ودلالات باهظة المعاني وكنايات فريدة ومجاز عالٍ.
(تشققت خاصرة الزمن)، (تسربل القهر لبوساً خادعاً)
(نرجسة تتلوى)، (أقبل الشعراء كلّ يدلي بمكره).. وكلها استعارات متنوعة تحيلك إلى عالم البيان والبديع الراقي. (الريح تكنس وتكنسُ)، و(عويل الرياح)..
وأمام صورة شبّه بها الحسّي بالمعنوي يغزوك الذهول وتتلبسك الدهشة وبإمكانية ليّ عنق الحروف لتصير قلادة استوقفتني هذه الصورة المميزة (تكدّس الخذلان على لفح الهجير). فالخذلان شبه بشيء محسوس يتكدس، ومكان التكدس هو حر الهاجرة القوي.. وعلى أمل بوهيمي توضّأ الحلم.
أضف لاستخدام الشاعر تقنية الحذف والإضمار التي تغرقك في متاهات الدلالة للمعنى والجمال.. فنراه استخدم أسلوبي الخبر والإنشاء منوعاً بينهما:
(دعينا نتوافق على أمر سواء
اقتربي قاب قبلتين
وتسبيحة غزل)، إنشاء نوعه: أمر.
كما برز استخدامه الكثيف لصيغ التعجب: ممزوجة بالطّباق الذي يحمل التناقض النفسي في ازدواجية الشعور والحركة.
“ما أحلاها أمنّا!
ما أقساها!
أيضاً: ما أروعها،
ما أحلاها!
ما أبهى الضياء”!
وفي مشهد سوريالي يبيع الشاعر ذات مزادٍ يده وساقه وجلده، ويطلب من الفقراء أن يصنعوا منه شباكاً ومن عظامه قارباً… من قصيدة خوف:
“زوري بيوت الفقراء
إنهم لا يشترون الكتب
طعم الخبز أشهى
الأطفال تريد الحلوى
سيحضرها (أخيلُ)
هو يستعد لمعركته الأخيرة
حبيبته أشهى من الخبز والحلوى.”
ويسترعي الانتباه في مجموعة (حكاية عطر) الاستخدام المبهر لتقنية التناص الشعري، هذه التقنية التي وفّق الشاعر في استخدامها ببراعة فريدة، إذا أرجعنا إلى نرسيس وأسطورة الجمال المشلوح على صفحات المياه الراكدة وفي عمق المرايا: لوركا، إيلوار وطاحونة الظلال، جلجامش والثور المقتول، همنغواي وسمكة شيخه والبحر أخيل وماء الخلود.. وبرشاقة وظف الشاعر عاطفته الجياشة، وبوصف مترف وحديث شفيف؛ جعل القمر يعبر الدوالي ويحبّ كل الأطفال حتى الأشقياء منهم ويتساءل بشجنٍ صامت عن رحيل الأحبة، وفي حضرة نيسان يستذكر حديث الأزرار النائمة وقصيدة يغنيها على وقع الحنين.
حبيب محمد علي عازف أفرغ آهاته في ثقوب نايه، فجابت الأمداء والريف والجبال العاليات حنيناً موشّى بشال القصب مهداةٍ لأرواح راحلين سكنوا القلب والوجدان..

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار