حَورٌ وغربانٌ وقمح.. خريفٌ دائم في حياة “فان غوخ”
تشرين – لبنى شاكر:
“عزيزي ثيو”؛ مُفردتان افتتح بهما “فنسنت فان غوخ” (1853-1890) مئات الرسائل إلى أخيه الأصغر، عُدّت فيما بعد مرجعاً لِتتبع مشوار حياة الرسام الهولندي بين مسقط رأسهِ وبلجيكا وفرنسا، ليس لأنها تضمنت أخباره وتنقلاتهِ فحسب، بل لِما فيها من هواجس وصراعاتٍ، عاشها الأول مع نوبات الصرع والاكتئاب التي رافقته طويلاً وصبغت لوحاتهِ بالبؤس، بدأتْ بشكلٍ حاد حين قطع جزءاً من أذنه، وهي الحكاية التي لا تزال تُثير الهلع حتى يومنا، وانتهتْ بإطلاقه النار على صدره عن 37 عاماً، وما بينهما كانت تفعل فعلها في عقلهِ ويدهِ وقلبهِ، حتى حاول مراتٍ ابتلاع رسوماته، وتنقّل بين مستشفيات الأمراض النفسية مُقِرّاً بحاجته للعلاج، ويبدو أنه كان واعياً رغم ذلك بشكلٍ يصعب فهمه لِيكتب إلى أخيه كما لو أنه يُحاور نفسه.
تلقى فنسنت من ثيو دعماً كبيراً، استند في جزءٍ منه إلى نشأتهما ضمن عائلةٍ تهتم بتجارة اللوحات وتنظيم المعارض، فقدّم له المال والنصح والحب، وكان حاضراً في تنقلاته بين المدن والشركات والتجارب، على أن البعض يرى تفسيراً آخر لهذه العلاقة، مفادها أن فنسنت رأى في ثيو تاجر لوحاتٍ، موهوباً وذكياً، فيما رأى الثاني في أخيه فناناً صاعداً يتطوّر باستمرار، وعلى أي حال في الرسائل المتبادلة ما هو أبعد بكثير، إحداها عام 1889، بعد أن قطع فنسنت أذنه، أرسل ثيو رسالةً يقول فيها: “يُؤلمني أنْ أعلم أنك لا تزال في صحّةٍ غير جيّدة، على الرغم من أن لا شيء في رسالتك ينمُّ عن ضعفٍ في العقل، ولكن حقيقة أنك قضيت بضرورةِ الدخول للمستشفى هو أمرٌ مهم وجديٌّ بحدِ ذاته”.
العلاقة مع ثيو، لم تكن الوحيدة اللافتة للنظر في حياة فنسنت، إذ إن القراءة في مختلف تفاصيل حياته، لا تكشف شيئاً عن مشاعره تجاه والديه، ولاسيما الأم، وربما يكون ذلك بسبب قلة المعلومات عن طفولته، لكن ما يتكرر ذكره أن رحيل والده لم يكن ذا أهميةٍ بالنسبة له، كذلك تقول حكايةٌ غير مُثبتة وبلا أدلةٍ تاريخيةٍ تدعمها؛ إن عائلته فقدت طفلاً يكبره بعام، حملَ الاسم ذاته ورحلَ في يوم ميلاده، أضف إلى ما سبق، كان الحظ العاثر مرافقاً له في قصص الحب القليلة التي عاشها، وعلى منوالها كانت علاقاته مع الأصدقاء والرسامين، حيث تُؤكد دراساتٌ كثيرة أن فنسنت عاش حالةً من الهيستريا بسبب خلافٍ مع صديقه، وللتكفير عن ذنبه أمسك بشفرة حلاقة وقطع بها أذنه اليسرى، ثم وضعها في منديلٍ ليقدمها إلى جارته، ويُعتقد أن الرسامَين الصديقين كانا يتنافسان على نيل إعجابها، ولا بدّ من الإشارة هنا إلى ما تقوله آراءٌ أخرى، رأتْ في الأمر مجرد حادثةٍ حصلت أثناء الحلاقة، من جرّاء نوبة صرع، أو ردة فعلٍ أبداها فنسنت عندما سمع بخبر زواج ثيو.
تعاطفَ فنسنت مع الفقراء وعمال مناجم الفحم، ولم يكن قادراً دوماً على تقبل النقد، كما لم يكن واثقاً باستمرار من قدراته كفنان، وخلال هذا كله لم يستطع أن يتحمّل البرد، وفي سنواته الأخيرة التي أمضاها تحت إشراف الأطباء، لم يترك ريشته وألوانه، رغم منعه من الرسم عدة مرات، وفي المحصلة يُمكن رؤية قلقهِ الدائم في أعماله التي لا ينتهي الجدل حولها، تحديداً المجموعات التي رُسِمت في أيام الخريف، كالتي نعيشها اليوم مع تبدل الطقس، أشهرها “شجرة التوت في الخريف” 1889، حيث تُشبه أطراف الشجرة باصفرارها الملتوي، أيدي الأخطبوط المُتداخلة، أيضاً “الحور.. زقاق في الخريف” 1884، وفيها ظلال سوداء لا تبعث على الطمأنينة بوجود الأصفر الباهت المُرتفع، ومن لوحاته الأخيرة “حقل قمحٍ مع غربان” 1890، وصفها البعض بأنها رسالة انتحار، لأنه أطلق النار على نفسه في أحد الحقول بعدها بحوالي 19 يوماً.