الصحفي المخضرم العريق الذي انتقل من الصحافة المكتوبة إلى الصحافة المرئية التي تخطّت التلفزيون إلى اليوتيوب، يخصص حلقة بعيداً عن السياسة وعواصفها والخط الذي رسمه لقناته، يتناول فيها علاقته بالكتب ويذهب الحديث الشفوي عنها كلّ مذهبٍ سلْسٍ كأنه يتجول في بستانٍ الجَدّ وارف الظلال، المعروف بكلّ شجرة ونوعها وأسلوب إزهارها وإثمارها وشيخوختها، وما يلبث أن ينتقل إلى شغفه بالكتب “المستعملة” التي فتّش عنها في كلّ مدينة زارها ووقف على أسوار الحدائق ومفترقات الأرصفة والدكاكين ينتقي ويقتني ولطالما ردد كلمة “مستعمَل” في سرد تلك الوقائع التي دخلت في “منطقة” خداع تاجرٍ أخذ منه أجراً مضاعفاً لنقل الكتب وشحنها إلى موطنه لكنه اختفى هو والكتب كأن أرضاً انشقّت وابتلعته، وراح يبحث عنه ليشتري منه ما سرقه لكن من دون جدوى!
الانطباعات التي تركتها رواية الصحفي كانت رشقات متتالية من المشاعر ما لبثت أن تلاشت وتركت كلمة “مستعمَل” تضيء وتخفت مثل مصباح يغذِّيه قابسٌ ضعيف! متى يكون الكتاب مستعمَلاً وكيف؟ وهل تنقص قيمته إذا ما مرّ على قارئ وأكثر؟ كل سلعة مستعمَلة ينخفض سعرها حتماً بفعل قوانين السّوق والتقييم البشري لها: الملابس. الأحذية. الأثاث المنزلي. أدوات الإنتاج. ولها أسواقٌ موازية لأسواق الجديد، يذهب إليها من ليس لديه قدرة على التسوق الغالي، عدا المعادن الثمينة التي لا يضيرها أن تتنقل في الزمان والمكان وبين آلاف الأيدي، ولطالما كان الكتاب “المستعمَل” لقية فريدة تعادل لؤلؤة مرمية على شاطئ، وسرعان ما أتذكر رصيف جامعة دمشق الخلفي المواجه للمتحف الوطني الذي فُرش بالكتب، ولكل كتابٍ نسَبٌ ينتهي إلى مكتبة شخصٍ راحل تخفّف ورثتُه من ثِقْل ممتلكاته، هناك عثرت على روايةٍ لكاتب طاجيكيّ عاش بين القرنين التاسع عشر والعشرين! كان الغلاف أنيقاً والورق صقيلاً كأنه خرج من دار النشر لتوّه، وموضوع الرواية حارّ رغم مبتدئها الذي يحدث في موسم الثلج الروسيّ، وكانت هي بذاتها فريدةً بين مئات الروايات التي اشتريتها من المكتبات الشهيرة وتناولها البائع عن الرفوف الأنيقة المنسّقة بيد خبيرة، لأنني وجدتُها من دون طلب أو تقصُّد!
لماذا لم يجتهد الأدباء في البحث عن صفة أخرى للكتاب؟ لماذا لم يغاروا عليه ويرفعوه فوق “المستعَمَل” الذي يفقد الكثير من خصائصه قبل أن يبلى؟ لماذا تسامحوا مع تسمية البائعين الذين لا يرونه أكثر من ورق عتيق وغلاف يحتاج إلى ترميم وسلعة يُستحسَن أن تُصرَّف؟
ألا ليت سوق الكتب يعود إلى أسوار الحدائق وتحت الجسور وبسطات الشوارع المتنحية خلف محلات الهاتف الجوال والملابس الفاخرة! ألا ليته يعود، بأي اسم وبأي توصيف!
نهلة سوسو
123 المشاركات