المدن المنسية.. وحكاية فصل من تاريخ الحضارة السورية
تشرين- سناء هاشم:
جزء مهم من تاريخ سورية وحضارتها تحكيه المدن المنسية، فهي مملوءة بالأوابد المعمارية القديمة التي تختصر تاريخ المنطقة.
تنتشر المدن الميّتة أو المنسية التي تشكل أكثر من سبعمئة وثمانين قرية على السهول التابعة لسلسلة جبال سمعان والحلقة وباريشا الأعلى، والوسطاني والدويلي والزاوية، ويتراوح ارتفاعها عن سطح البحر بين 400 وأكثر من 900 متر.
تتميز هذه المواقع بوجود نحو60 موقعاً بحالة معمارية ممتازة حتى وقتنا الحالي على الرغم مما تعرضت له من عوامل تخريب طبيعية وبشرية عبر الزمن وذلك بفضل طبيعة المواد التي بنيت منها ولاسيما الحجر الكلسي، حيث لا تزال واجهات عدد من بيوتها قائمة حتى مستوى السقف.. وتؤرخ هذه القرى إلى العصرين الروماني والبيزنطي تعرض بعضها للهجرة من سكانها بينما استمر استخدام بعض المساكن في قرى أخرى لعدة عصور لاحقة، وهناك بعض السكان الحاليين الذين يقطنون عدداً من البيوت القديمة أو قاموا باستخدام حجارتها القوية في تشييد مساكنهم الجديدة وهذا ما أدى إلى اندثار عدد منها بشكل كامل.
العديد من سكان هذه القرى التي تعدّ من أجمل قرى العالم هجروها نتيجة الظروف المعيشية وعدم صلاحية أرض تلك القرى للزراعة، وهذا كان سبب تسميتها بالمدن المنسية.. وتشير أبحاث ودراسات المديرية العامة للآثار والمتاحف إلى أن المدن المنسية تقسم إلى مجمعات أثرية وهي موقع “رويحة” التي تعدّ قرية أثرية يعود تاريخها إلى القرن الثالث الميلادي, وقد استمرت حتى القرن السابع، وتتميز بفيلاتها ذات الباحات الفخمة والواسعة ومداخلها الجميلة الغنية بالزخرفة والنقوش، وتتألف كل فيلا من طابقين يتقدمها رواق من الأعمدة يتوضع فوقها شرفة.. فضلاً عن موقع آثار باقرحا الذي يعود تاريخه إلى العام 384 ميلادية، وموقع قرية “جرادة” وتقع على بعد 10 كم شمال “معرة النعمان”، وشرق “رويحة” بنحو 2 كم، ومن أهم أوابدها “البرج” الذي يتكون من خمسة طوابق بارتفاع 15 متراً، وأيضاً موقع قرية “سرجيلا “الواقعة بالقرب من “البارة” في “جبل الزاوية”، ويعود تاريخها للقرنين السادس والسابع الميلاديين وتشتهر بمعاصرها ومدافنها السطحية ذات النقوش الجميلة، وكذلك قرية “شنشراح” على بعد 13 كم إلى الغرب من “معرة النعمان”، وتعود للفترة الرومانية البيزنطية وفيها 6 كنائس ومدافن ومعصرة تعود للقرن الرابع الميلادي.
كما أن هناك أيضاً تجمع موقع “البارة” الأثري في الجنوب الغربي من مدينة إدلب، وتعود آثارها لعصور مختلفة كالبيوت الحجرية مثل “دير سوباط” ومعاصر الزيتون، ويضم هذا التجمع أيضاً قرى “باترسا” و”بشلا” و”نجليا” و”ربيعة” و”وادي مرتحون” وجميعها تقع في “جبل الزاوية” في منطقة”أريحا”.. أما التجمع الثالث فيضم ثلاثة مواقع في جبل “الوسطاني” الواقع غرب “إدلب” وهي موقع “كفر تعقاب” ويقع غربي جبل “الدويلي” ويتميز باتساعه وكبر حجمه وبأبنيته المتنوعة من كنائس وأديرة إلى جانب الدور السكنية حيث يعتقد أنه موقع مدينة “نياقابا” التاريخية، وهناك موقع “الفاسوق” وهي قرية أثرية تعود للقرن الأول الميلادي فيها أما التجمع الرابع في جبل”الأعلى”وأهم مواقعه كنيسة”قلب لوزة” التي تعد لؤلؤة كنائس سورية بعناصرها المعمارية الجديدة وتمثل كنيسة الثالوث الأقدس، وتعود لأواخر القرن الخامس الميلادي وتتألف من ثلاثة أروقة تمثل قصة العمارة السورية للعهد البيزنطي، وموقع”قرقبيزا” وموقع”الكفير”وهو إحدى القرى الأثرية المهجورة وتبعد عن “قلب لوزة” حوالي 2 كم، وفيها 21 فيلا وكنيسة رائعة وتعود للقرن الخامس الميلادي، في حين يشمل التجمع الخامس ثلاثة مواقع في جبل”باريشا” وهي “دار قيتا” يعود تاريخها للقرن الأول الميلادي وفيها/ 55 فيلا و14 معصرة زيتون، وموقع”باقرحا” وهي قرية أثرية مهجورة تعود للقرن الثاني الميلادي، وتقع على المنحدر الشمالي لجبل “باريشا” وفيها حوالي 40 فيلا، وأسواق وكنيستان بازليكيتان تعودان للقرن الخامس عن هذه المدن.
إلى ذلك، تشير تقارير مديرية الآثار إلى تعديات طالت تلك المدن خلال الحرب، فقد عاثت فيها التنظيمات المسلحة فساداً وتخريباً، وتعرضت للتنقيب غير المشروع، إلّا أنّ أبناء المجتمع المحلي ساهموا في الحد من هذه العمليات غير المشروعة.. إن “المدن المنسية” الموجودة في سورية مواقع فريدة من نوعها وغنية بعددها وأهميتها وهي الوحيدة في حوض البحر المتوسط التي يمكن أن نتحدث من خلالها عن تاريخ الإنسانية وعادة ما تسجل “اليونسكو” مواقع مفردة تكون ضخمة بحد ذاتها ولكن نحن هنا أمام منطقة هائلة بغناها وبعدد مواقعها، إنها منطقة كبيرة بحجمها وفي الوقت نفسه هناك حياة إنسانية فيها حيث يجتمع فيها المشهد الطبيعي مع المشهد الأثري ليشكلا لوحة غاية في الجمال والإبداع.