خبراء “الجلب” و”الحمرا الطويلة”

في مرحلة الطفولة ذهبت وابن عمي إلى دكان “أبو إبراهيم” لشراء علبة سجائر حمراء طويلة لعمي رحمه الله وعدنا يملأ قلبينا الفرح أننا أنجزنا مهمة مفيدة بتقديم خدمة الشراء، وعندما أعطينا “الباكيت” لعمي اكتشفنا أن نجاحنا كان ناقصا لأنها كانت غير مخزنة بشكل سليم وهناك سجائر شبه فارغة… عندها ابتسم عمي وقال لنا : لا تشتروا مستقبلا “حمراء طويلة” من شخص يدخنها لأنه سينخبها ويترك السليمة له ويبيع ما يزيد على حاجته.
أتذكر هذه الحادثة عندما أسمع أخبار استقبال مسؤولينا لخبراء أجانب وشركات دولية وأنهم ناقشوا معهم واقع خدماتنا ومعيشتنا وسبل وضع الاستراتيجيات والخطط لتحسينها، ليتم بعدها توقيع عقود مع هؤلاء الخبراء أو من يمثلهم محليا بمبالغ “مرقومة” ضمن احتفاليات في فنادق ومطاعم من فئة خمس نجوم!
قبل الأزمة كانت معظم وزاراتنا تتلقى منحا دولية من دول ومنظمات على شكل برامج تأهيل وتدريب وإعداد دراسات لا سيما في قطاعات الصناعة والإدارة المحلية والزراعة والتربية وغيرها، لكن مع انتهاء فعاليات التوقيع والتدريب كانت توضع النتائج في الأدراج تمهيدا للبرامج القادمة واحتفالاتها .
وهذا يمكن تفسيره إما بأن هذه البرامج كانت غير واقعية وخلبية هدفها إفادة الخبراء ومن يوقعون معهم، أو إنها وضعت وفق أسس لا تتناسب وأوضاعنا المحلية، أو إنها كانت تقدم عن طريق خبراء تعاني بلدانهم أضعاف ما يعانيه بلدنا في القطاعات التي ادعوا قدرتهم على تطويرها، فلو كانوا قادرين على حل مشكلات بلدانهم لما تركوها قبل أن يحلوا أزماتها.
واليوم أيضا ما زالت هذه الأمور تجري لكن مع أشخاص أو شركات غير محلية تفتتح فروعا لها كمراكز استشارية تلجأ إليها جهاتنا العامة للقيام بدراسات أو وضع خطط مقابل مبالغ كبيرة يمكنها أن تحل نصف إشكاليات هذه الجهات من دون توقيع العقود مع الخبراء المزعومين.
وهذا أيضاً ما حصل في استقطاب القطاع الخاص خبراء عربا لإدارة بعض الشركات والمنشآت ولم ينتج عن ذلك دوران لمعامل أو مصانع على أيديهم، بل انطلقت لاحقا مشروعاتهم بأيد محلية وبنجاح.
سورية بلد متخم بالخبراء في شتى المجالات لهم مساهمات في مختلف دول العالم وأثبتوا أنهم قادرون على إيجاد الحلول للمشكلات المستعصية ببراعة، لذلك فإن الأجدى حاليا الالتفات إلى هذه الخبرات وتحفيزها وتطويرها والإيمان بأن خبراء “الجلب” لن يضيفوا شيئا في سبيل تحسين واقعنا، كما يجب أن تراقب كل الاتفاقيات الموقعة وتقييمها قبل وأثناء وبعد التنفيذ لمعرفة مدى جدواها حتى لا تكون “منخوبة” ومفصلة على مقاسات بعض المستفيدين وفارغة كما كانت الحال مع سجائر “أبو إبراهيم”!.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار