في الطريق الى “عين السبع” ثمة جسدٌ مسجى وقصيدةٌ أخيرة…مرهج محمد وداعا

علي الرّاعي

” للبنفسجِ

في يَد ِ

(الرحمن)

نبعٌ

مِنْ

حنينْ!!”

بين عامي (1965 و 2022 )؛ ثمة سبعٌ وخمسون سنة، تلك التي ستمنحها الحياة للصحفي والشاعر مرهج محمد زميلنا في الدائرة الثقافية في صحيفة تشرين من مكتب اللاذقية.. سبعٌ وخمسون سنة قال فيها مرهج فلسفتَه في هذه الدنيا الفانية، كما كان ينعتها، هذه الدنيا التي قال عنها يوماً كما دوّن على صفحته الشخصية في (فيسبوك): (لمناسبة مصادفة ذكرى ميلاد جسدي الفاني البالي الزائل، أنظرُ بعين قلبي وأنا بين الخوف والرجاء إلى كلمات السيد المسيح ملتمساً مسحةً رحيمةً من كريمِ راحتهِ الشريفة(ع): “مَن يولَدُ مرَّةً يموتُ مرَّتين، ومنْ يولَدُ مرّتين يموتُ مرّةً”).

واليوم؛ وأنا أكتب هذا الرثاء للصديق الشاعر مرهج محمد، يكون جسده يتحضّر لمسيره الأخير من مشفى الأسد الجامعي في اللاذقية إلى مثواه الأخير في “عين السبع” – جوبة برغال قضاء القرداحة، بعد أن أنهى “منحة” الحياة – السبع والخمسين سنة، كانت مفعمة شعراً وصحافة، تنقّل في الثانية بين صحيفة البعث والإذاعة، وأخيراً حطّ رحال المهنة في صحيفة تشرين – مكتب اللاذقية، يُرسلُ بين الفينة والأخرى مقالاته الثقافية، التي اتسمت بأنها أخذت من الصحافة طرفها الناعم، المقالة التي أكثر ما كانت غوايته الإعلامية، حيث دوّن فيها تلك (الفكرة) التي كان يبحث لدعمها وتدعيمها مما قاله الشعراء في ديوان قصائد العرب، كالكرم والصدق والحب، والكثير من الأفكار والمفاهيم، التي كانت، أو شكلت لديه أشبه بالمحطة، أو ب”سوق عُكاظٍ” مُصغّر، يجمع من خلاله الشعراء من خلال مقولاتهم ونظرتهم، أو تعاطيهم مع تلك الفكرة:

“عِديني أن

تظهري

وأعِدُك بألاّ

أراكِ !

أيتها الزنبقةُ

المتخفِّيةُ خلف

إصبعِها،

أين، فجأةً،

ضاع

كلُّ

هذا العبير ؟!”

أما في الشعر؛ فكانت القصيدة العالية فضاءً لتحليقه كطائر الوروار، بذلك الشعر الرهيف، وبكلِّ أشكالِ القصيدة، نوّع خلالها بين أشكالها كلها من الموزونة العمودية بموسيقا القافية، وبين التفعيلة، وهو في طريقه يلجُ أبوابَ قصيدة النثر.. نصٌّ شعري أقرب لموسيقا الصباحات الندية، وهو يتساءل: ” أين يمكن أن تجد لحظة تأمل ما دمت في كل لحظة مشغولاً بأمور لا بد من الانشغال بها ، أجل لا بدّ من أن تشغل بالك فيما لا يجب أن تشغل بالك، إذ كانت قبلاً في المتناول دائماً، من أين يستطيع الكاتب أن يجد لنفسه فسحةً من التقاط فكرة في بستانٍ تحول إلى متاهات دروب لا مجال فيها إلا لأصوات أنفاس اللاهثين وراء لقمة العيش، ألا تطقّ القصيدة من تصوّر نفسها وليدةً في بيتٍ تشكو صاحبتهُ قلّة الجرذان! ولله درّها من أعرابية عاربة، ويا لها من كنايةٍ لم تعد تعجبُ سامعاً فطناً موسراً يملأ بيتها سمناً وطحيناً؟!”.. ويزيدُ مرهج في السؤال بيتاً للقصيد، وهو يُفتشُ عن الشعر في أماكن لا تخطر إلا على بال مرهج وحده: “جمعتني بأشلائي ذاتَ كومةٍ من عبّاد الشمس اِصطفّتْ مع مثيلاتها بإيعازٍ من (عيون) الصبايا الفلاحات قبل (زنودهنّ)، وقد باكرنَ قطافها قبل شروق الشمس، وأنا وصديقي مازلنا على ذلك الجرّار الزراعي الأزرق متنقلين بين أكوام أقراص العبّاد إيّاه والعينان تبحثان بحذق لا بحذر عن سبّحة قصيدة على شكل حبات الكرز بين ثغور الصبايا، فهل من وقتٍ للكتابة ؟!”.. لكن من يتوكأ على عصا موسى؛ يتوكّأ خاطره، فينهضُ مجبورَ الجوارح ِوالخواطرِ، ويمضي مُعتصماً بها من شرِّ طوفان البعوضِ على الموائد والعضاريط ِاللئامْ:

“وعلى عصا موسى

توكّأ خاطري

فوجدتُني حرّاً

ومأموراً معاً

– أبداً –

– صعوداً

والكرامةُ لي

على صدري

وسامْ

– أبداً – ومدعوّاً

سموّاً

نازلاً طوعاً

بإنسانيتي العُظمى

– إذا قدّرتُها-

ضيفاً عزيزاً

صوبَ وادٍ

حولَ

مائدةِ الكرامْ !

وعلى عصا موسى

توكّأَ مَن توكّأ

والسلامْ”

مرهج محمد اليوم، قصيدة أخيرة في الطريق ل(عين السبع)، وهو يُردد: “غريبٌ أمرُ هؤلاء الذين يعلمون عِلمَ اليقين أنهم سيموتون غداً، ومع ذلك لا يكتفون باستهلاك (اليوم) كلِّ اليوم، في سبيل (اليوم)، بل يستهلكون (غداً)، وما سمعوهُ عن (غدٍ)، ويستخدمونه في سبيل (اليوم )!..

غريبٌ عجيبٌ أمرُ هؤلاء !

أليسَ من أبجديات الحكمة

أن يضعوا في (حسابهم) نسبةً ما

ــ ولو بسيطة ــ

أنَّ في غدٍ (حساباً ) ما،،؟!

غريبٌ عجيبٌ أمرُ هؤلاء،

وعجيبٌ غريبٌ أمري

أيضاً، أنا الآخر،

إذ مالي ولهم!؟”

في الطريق إلى “عين السبع” اليوم؛ ثمة جسدٌ مُسجى وروحٌ تسمو، وهي تنشدُ قصيدةً أخيرة تُحاول أن تُعكّر صفو الألم، وتمسكُ الموتَ من تلابيبه.

الزميل العزيز مرهج محمد وداعا..

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار