خلعَت “الأزمنة” ملبوسَها التقليدي شيئاً فشيئاً فما عاد الليل للسهر والأنس وسماع أغاني الحب، وما عاد الفجر لليقظة الروحية والبدنية يغسل البصر والسمع والشم، وما عادت القيلولة ذات معنى في الأيام التي شحنتْها الحرب بكل أصناف الفوضى وطوّحت معها بمباهج الإحساس بالوقت ومُرافَقاتِه المتنوعة من انتظار وأشواق ولقاءات واحتفالات وعزلة ووسَن وإغفاءات مسروقة! رافقت الحربَ التوتراتُ العصبيةُ الحادة للبقاء على قيد الحياة تحت القصف والتدمير والتهجير وعشوائية القتل، حتى استيقظنا ذات يومٍ لا نفتش فقط عن الأمكنة الآمنة بل عن الأزمنة التي كانت آمنة، نريد أن نسكنها مرة أخرى لنشعر أننا أحياء!
كان وقت السّحَر خالياً تماماً من المصابيح، ونوافذ البيوت مفتوحة لأن الأصوات تخرج منها قوية بلا حرَج! لا أحد معنيٌّ بوقت نوم البشر ولا براحتهم! المستيقظون مشغولون بشح الماء، والرجل يوبّخ المرأة في بيت ما لأنها لم تنتظر مجيء الماء على مفترق أواخر الليل. وطفلٌ يبكي صادحاً بكل قوة حنجرته يحتج على أمه النزقة التي تقرقع بأدوات المطبخ المتروكة منذ أيام تغسلها على عجل قبل نفاد الماء الشحيح، وفي مكان قريب غير مرئيّ كان دكانٌ يُفتح بعصبية ويجرح معدنُ “غلَقِه” براءةَ الفجر، وقطط هبّت من نومها لِصْقَ الجدران بسبب الضجيج وراحت تدور ناعسة في الزوايا المتقاطعة لأسوار البيوت التي مازالت مجرّحة بطلقات الرصاص! كل هذا كان غير مرئيّ بالعين بسبب الظلمة الحالكة التي غابت منها حتى نجوم السّماء وأضواء المئذنة الناجية من القصف والقنص، لكنه محسوسٌ بقوة، عبر السمع، ولا ينقصه من الكابوس عنصرٌ واحد، وقبل أن أغادر النافذة لمواجهة كوابيسي الصغيرة متعزّية بكوابيس الناس، شقّت الهواء رائحة قهوة قوية! كانت عذبةً طليقةً تزداد سرعة في الفضاء المعتم لتقتحم النوافذ كما فعلت حين اقتربت مني وهي تهفهف برائحة “الهيل” وحرارة الماء ومزاج من صنعها! قد يكون سهلاً على الأذن أن تحدد مصدر الصوت وعلى العين منبعَ الشعاع، لكن هذا العبق لم يكن بحاجة لتتبُّع مصدره، لأنه انتشر فوق كل “فوضى” الكابوس فبدّدها بيد أحد من كان يشارك بجوقة هذا الكابوس!
أخذتني الرائحة السحرية من يدي إلى عالم أنيس فيه ظلٌّ أخضر وسعادة طفولية فيّاضة، كان العالم قد تحول بصفحته القاتمة الفارغة إلى نوتة رُسم عليها مفتاح “صول” أحد أهم المفاتيح التي تنطلق منها الموسيقا بكل أشكالها وألوانها وسحرها الذي لا يوصف، أنا التي يستعصي عليها عالم الرياضيات برموزه الصعبة، انسابت الألحان في سمعي بلا حاجة لقراءة النوتة، التي كانت قهوة غامضةَ المصدر لكنها بقوة سيمفونية تستخدم كل آلات العزف، لتستقبل شمس نهار جديد في الواقع وفي المجاز!