التشكيل شعراً.. طقـوس لـ«مونـادا» القصيـدة واللوحة

تشرين- علي الرّاعي:
من الفنانين السوريين الذين فارقوا المُحترف المُتماثل في المشهد التشكيلي السوري، واكتسبت أعماله خصوصيتها وعلامتها الفارقة، وابتعدت عن سرب التشابه؛ كان ما اشتغل عليه الفنان وضاح السيّد، الذي بقي يُقدّم أعماله الفنية على حواف القصيدة، بل كثيراً ما اشتبكت ألوانه مع النص الشعري، وكثيراً أيضاً، ما كانت نصوص شاعرين على وجه التحديد؛ هما الأقرب لأن يُقارب قصائدهما لونيّاً، وأقصد بذلك والده الشاعر محمود السيّد، والشاعر نزار قباني.. ومن بعض سمات لوحته أيضاً، والتي شكلت غوايته اللونية إضافة لـ الغوية الشعرية في (نص اللوحة)؛ كانت المرأة؛ المرأة كحامل جمال أثير لدى وضاح السيّد؛ لدرجة أن ثمة الكثير من النقاد؛ سحبوا مُصطلح (شاعر المرأة) من الشاعر نزار قباني، وكحالة مُعادلة تشكيلية لوضاح السيّد؛ لينعتوه بـ(فنان المرأة)، وللتذكير سيكون الكثير من الأعمال الفنية لوضاح السيّد سيشابكها أو لها انجدالها مع قصائد نزار قباني، لدرجة تشكيل أقرب إلى مُحترفٍ فني يمزج، أو يُماهي بين القصيدة واللوحة التشكيلية، في محاولة لإنتاج قيمٍ جمالية مبنية على مُعطيات النوعين الإبداعيين: الشعر والتشكيل، ولدرجة أيضاً تضيع معها التخوم، والحدود ما بين الشعري والتشكيلي..

التشكيل قصيدة ولوحة
مسيرة فنية بدأت بفوزه بالمركز الأول لأفضل لوحة على مستوى سورية، وكان ذلك بعمر (11) سنة، في تجربة لا تملُّ الوقوف على عالم الرومانسية الحالمة الموشاة بالروحانية، حتى إن كتابه الذي أصدره سنة 2007، أطلق عليه عنوان: (التقنيات الروحية لتعليم الرسم).. فـ(لوحة نوستالجي) على سبيل المثال؛ لوحة جدارية؛ تجمعت فيها كل حكايات الشجن العتيق في ذاكرته… ومنذ تخرجه في كلية الفنون الجميلة في دمشق سنة 1990، والفنان وضاح السيّد، يحرص أن تمشي لوحته في طريقٍ عبدّه ليكون لها مسارها الخاص، ومن ثم أسلوبها الذي يُعطيها هويته التشكيلية الخالصة، والبصمة التي تُميز أسلوبه في المشهد التشكيلي السوري، محاولاً طول الوقت لأن يكون مُغايراً عن نتاج هذا المحترف، وذلك من خلال محاولته لإيجاد (نقاط علاّم)، تمنحُ لوحته المُفارقة، وتقول (هذه أنا)، أشبه نفسي فقط.. ولعلّ أهم ما أعطى لهذه التجربة بصمتها؛ تلك الشاعرية التي اتشحت بها مختلف تنويعات التجربة وانعطافاتها، شاعرية توحي؛ وكأنّ هذا الفنان يرسم لوحته شعراً، يكتب قصيدته اللونية على مدى الخامة البيضاء، تمثّل ذلك في هذا الثراء اللوني الذي يُفعم به لوحته.. بدأ ذلك منذ أولى خطواته الأولى التي كانت تجريدية، لكن سمتها أنها كانت زاخرة باللون، وإذا ما بحثنا خلف هذا الزخم اللوني الشاعري في لوحة وضاح السيّد؛ فجذورها تعود لصاحب «مونادا دمشق»، وأقصد الشاعر والصحفي الراحل محمود السيّد، تلك القصيدة التي أدهشت المشهد الشعري حين نشرها لأول مرة،‏ والتي سيكون لها وقعها وإيقاعها في تلوينات «الابن»، فيكون لكلّ من الأب والابن «موناداه»، وإن صاغها كل منهما بإبداعٍ مختلف، يقول وضاح: «هناك رسالة أحاول أن أنقلها إلى المشاهد، أو المتلقي للوحتي، فالمونادا اللونية التي شكلتها على مساحة لوحتي البيضاء؛ تحمل معها فعلاً آخر جديداً لعين الرائي، لهذه النافذة التي ابتليت بما تراه فقط، فالمطلوب استثارة الجديد والإدهاش بعيداً عن كل ما يُحاصرنا من ارتجال وافتعال ساذج في الطرح، وبعيداً عن مساحات الضجيج في عالمنا المحدود»..‏

التمثل الشعري لوناً
هل من ذلك التأثير -ربما- نُفسر رحلة الألوان الطويلة للوحة وضاح السيّد برفقة القصيدة، أنجز خلالها عدداً من المعارض الفنية، كان الشعرُ الباعثُ الأول لها، احتفى خلالها بقصائد أكثر من شاعرٍ عربي، حتى بدت تجربة هذا الفنان، وكأنها تحمل خصوصيتها بهذا التمثل الشعري في اللوحة التشكيلية.. وما يُميز لوحة السيّد، إضافة لشاعريتها اللونية، في هذا الإصرار لديه على «أدبية اللوحة»، وهو المأخوذ بالكتابة والتأليف لزمن ليس بالقصير.. يقول عن هذا الأمر: «الكتابة حققت لي نشوة ذهنية لا تقل أبداً عن اللوحة التشكيلية، وكان نتاجها كتاب «التقنيات الروحية في فن الرسم»..

المرأة كقصيدة نثر
الحالة التجريدية التي بدأ بها السيّد، والتي كانت سبر أغوار النفس تحديداً، لن تستمر طويلاً، حتى ينعطف الفنان بعدها صوب المدى الخارجي، الذي يلتمس منه أجمله، «أنثاه وزهوره» حتى كادت المرأة أن تكون «المكوّن» الأبرز للوحة وضاح السيّد، في النتاجات اللاحقة، لكنه في تجسيده للمرأة سيبتعد عن أمرين درجا في مثل لوحات أنثوية كهذه، أولها الجسد العاري رغم كل حمولات هذا التشكيل الجمالي، والأمر الآخر هو «لوحة الحريم الشرقي» التي اجتهدت لوحات المستشرقين على تصويرها، وإنما كانت اللوحة هي «امرأة وضاح السيّد».. هي المرأة المُفعمة بالشاعرية، المرأة الخارجة من توشيحات وستائر البنفسجي، والزهري، والكحلي، والأصفر.. المرأة المُحوطة بالطيور، والفراشات، لوحة مشغولة بالضوء وبالمدى البصري حتى النهاية، اللوحة التي تصير ملء العين، سواء بالصياغة الحركية، أو ببناء التكوين، وكأن المتلقي يتأمل قصيدة حب ملونة على كامل البياض.. هي المرأة التي يُبدعها، أو كما يذكر: «لقد اخترعت المرأة مرة ثانية في لوحتي.. جعلتها خصبة كالأشجار، وحالمة كالأطفال وجميلة كالغابات… رسمت من خلالها ما أريد وأكثر ما أتمنى».‌‏

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار