“المشاعر الخمسة” لـ لميس محمد.. مسرحية من عقل الطفل وإليه
بديع منير صنيج
نادراً ما يلح عليّ عمل مسرحي للكتابة عنه، كما فعل عرض “المشاعر الخمسة” كتابة وإخراج لميس محمد، إذ ظلَّت تفاصيله تدور في بالي، وتفعل فعلها في تحريضي المرة تلو الأخرى، ألا تفوِّت الاحتفاء بهذا العرض الجميل.
ببساطة، لأنه يستحق، ولأن ذلك من حق صانعيه عليك، ولذا رغم تأخري، سأحاول أن أُنْعِشَ مكامن الجمال فيما تابعته.
منذ الدخول إلى القاعة متعددة الاستعمالات في دار الأوبرا السورية، كان ثمة ما هو مختلف على صعيد السينوغرافيا، لنكتشف بعد بداية العرض أن ما تدور فيه أحداث المسرحية ما هو إلّا دماغ جنين، تتشابك فيه العصبونات الحسية، وتتدلى داخله خمس أراجيح ملونة، نتعرَّف إلى ساكنيها شيئاً فشيئاً، لتكون هي المشاعر الخمسة (الخوف- نور شلغين، السعادة- أنجيلا البشارة، الاشمئزاز- قيس الزيلع، الغضب- لورا نخلة، والحزن- شهد بركة) التي تتضافر مع بعضها لتُشكِّل في النهاية وعي الطفل بعد الولادة، وذلك بإشراف صارم من اللاوعي الذي جاء كصوت (سيمون الحناوي)، أوكل للمشاعر مهمة اكتشاف لون الحياة ضمن زمن محدد، وبعد عدد من المحاولات والإخفاقات، تنجح المشاعر باكتشاف ذاك اللون المكوَّن من امتزاج ألوانها جميعاً.
القصة على بساطتها، مُغايرة لأغلب ما بات يُطرَح في مسرح الطفل، ويتم فيه الاستخفاف بذكاء الأطفال وشغفهم بالمعرفة وحساسيتهم العالية، بينما “المشاعر الخمسة” احترم عقول الأطفال وانطلق منها في رسالته إليهم، واهتم بتبسيط المعلومة من دون تسطيحها، وبذل القائمون عليه جهوداً إبداعية واضحة من أجل بناء إيقاع متصاعد للحكاية، وخلق العقبات أمام أبطاله، وتفعيل الصراعات فيما بينهم، قبل الوصول إلى نهاية حلّ العقدة، وكل ذلك بشكل مدروس علمياً، وبما يتواءم مع مَلَكات متلقي العرض للصغار، حيث إن السينوغرافيا كانت لافتة (وائل الدهان ويارا متولي) بما فيها الشاشة التي تعرض صورة شعاعية لحركة الجنين، والمؤقت الزمني لمراحل تكوّنه خلال الشهور التسعة، وبداية تشكُّل مشاعره منذ الشهر الخامس، وسبقت ذلك مجموعة أسئلة مكتوبة عليها وتمت قراءتها في البداية لإدخال الأطفال في جو العرض وتحفيزهم على إيجاد إجابات لتلك الأسئلة بعد الانتهاء من متابعتهم، ثم إضاءة أوس رستم وهايدي فرج بكل دأبها لصياغة الجمال الموظف لخدمة العرض، وأيضاً أزياء “حسان سويد” المدروسة بعناية من ناحية شكل الزي ولونه بما يناسب كل شعور، إلى جانب الماكياج المميز لإنجي سلامة الذي واكب الأبعاد النفسية للشخصيات، والموسيقا الحية التي عزفها كلٌّ من فارس دهان وعمران أبو يحيى والتي جعلت المشاعر المُجسَّدة على الخشبة أكثر حيوية.
وفوق ذلك التبني المتميز من الممثلين الأطفال لشخصياتهم (أعمار الممثلين بين الرابعة عشرة والسابعة عشرة عاماً)، واللعب على أوتار العلاقة مع جمهور الأطفال، سواء بنبرة الصوت وحركة الجسد والغناء الذي جاء لتعزيز معنى كل شعور، وكل ذلك تحت إدارة المخرجة لميس التي استطاعت أن توائم بين عناصر العرض جميعها، وتضبط إيقاعها، وفق ميزان متقن، أبرز جمالياتها باندغامها مع بعضها، وبالتواشج بين الممثلين والديكور والشاشة السينمائية في عمق الخشبة، وصوت اللاوعي القادم من وراء المدرجات، والموسيقا الحية وما صاغته أيضاً من مؤثرات عززت الحالة الدرامية للمواقف المختلفة التي تعترض المشاعر الخمسة، بما في ذلك بحثها عن لون الحياة مجتمعةً، ثم فردياً، إلى التفكير بأن يتناوبوا على الحراسة ليلاً بغية الإمساك به، وحينها يخرج شعور الخوف الأم الذي جسدته ببراعة وتمكُّن الممثلة “حلا بشار” لتتلاعب بالخوف الصغير، وتعدل مؤشرات زمن ولادة الجنين، فتنشأ صدامات وتحالفات تنتهي باجتماع ألوان المشاعر جميعها مكوِّنةً لون الحياة، ولو جاء ذلك نتيجة مصادفة بحت.
المميز في العرض أن مخرجته “لميس” بالتعاون مع الدراماتورج “بيترا جومر” سعتا لتقريب المسافة الإنسانية بين مكونات العرض وبين الأطفال، معتمدتين بالأساس على فكرة أن يكون الممثلون من الأطفال بالدرجة الأولى، لإيصال رسالة تحاكي عقل الطفل وترسم له بطريقة علمية العوالم المجهولة لبداية تشكل انفعالاته وعواطفه، ابتداءً من اللاوعي في رحم الأم، وحتى العقل الواعي ما بعد الولادة، أي إنهما وضعتانا في رحلة نحو وعي الأطفال بذواتهم ومشاعرهم المؤسسة لشخصياتهم الإنسانية وسلوكياتهم المستقبلية، وذلك وفق لعبة مسرحية ممتعة تحرِّض على الاكتشاف والمزيد من المعرفة.