«الخضري».. !

بما أن قريتنا تتربع على تلة تشرف على كل أراضي القرية من الجهات الأربع فقد كان سهلاً على«الخضري», وهو عين وعامل الإقطاعي الذي كان يملك قريتنا ببيوتها وأهلها وأرضها إضافة إلى بعض القرى المجاورة.. كان سهلاً عليه مراقبة الأراضي وحمايتها من التعديات.. والتعديات حينها كانت محدودة جداً كأن تقوم إحدى نساء القرية بجمع الأعشاب من حقول القمح، وخاصة التي تصلح علفاً من دون أن يؤثر ذلك على نبات القمح، يقوم صاحبنا بالصراخ من مكانه في أعلى التل، وهو يسبُّ ويشتم تلك المرأة لأنها قامت بالاعتداء على أملاك الإقطاعي.. ويراقبها حتى تصل إلى بيتها حيث يقوم بكسر الجرة أمام أعين صاحب البيت والأولاد والجيران.. ومعلوم أن الجرة حينها هي الوسيلة الوحيدة لتعبئة مياه الشرب وتخزينها.. وهي في الحقيقة عقوبة كبيرة جداً لأن العائلة قد فقدت مخزونها من ماء الشرب وعليها أن تلجأ إلى الجيران للمؤازرة.. وعليها أيضاً أن تؤمِّن ثمن جرة جديدة، وهذه عقوبة أخرى ليست بالسهلة .
حدثتنا والدتي- رحمها الله- عن عشرات الحالات التي كسر فيها الخضري عشرات الجرار لمجرد الشكوك والشبهة، بل إنه تجاوز ذلك في بعض الأحيان إلى فك وثاق حيوانات أصحاب المخالفات لتعيث فساداً في هذا الحقل أو ذاك, حينها يمتلك أدلة وبراهين تودي بصاحب البيت والجرة إلى الطرد من القرية إلى قرية أخرى خارج سلطة الإقطاعي ..
كان الاعتماد على مكر الخضري يتم في حالات محددة، وخاصة عندما يريد تهجير أسرة ما إلى قرية أخرى، وتعود الأسباب في الأغلب إلى عدم رضوخ هذه الأسرة لطلبات الخضري للزواج من ابنة العائلة أو تقديم «الديك» كهدية له ليتغاضى ويمتنع عن كسر الجرة ..حيث كانت للديك وقتها قيمة كبيرة تتعلق بالدرجة الأولى بتفريخ الصيصان.. بعد إرضاء«القرقة».
« فساد الخضري » كان لها معان ودلالات كثيرة، ومازال لها المفعول ذاته، إذ إن الفساد والتخريب أينما حل، حصل الخراب و«التعفيس».. وبالمقارنة قد يبدو أن كسر الجرة أقل الخسائر بعد معرفة ما يمكن أن يفعله الفساد . العائلة يمكنها تحمل العطش إلى حين إيجاد مصدر للماء، إضافة إلى أن الجيران في تلك الأيام كانوا لا ينامون وجارهم جائع أو عطشان.. لذلك فقد كانت عقوبة الجرة أقل وطأةً من غيرها
اليوم يقوم الفساد بكسر كل الجرار.. وفك وثاق كل الحيوانات حيث تهدد كل الحقول بإشعال النيران فيها لإرضاء غرور هذا أو ذاك ..

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار