بعضُ قصائده منعت من المحيط إلى الخليج.. مظفر النواب يرحل وهو يُلقي الشعر كمن يغني

علي الرّاعي

“مرةً أخرى على شباكنا،
نبكي ولا شيء سوى الريح وحباتٍ من الثلج على القلب،
وحزنٌ مثل أسواق العراق..”..
ربما لم تمنحْ الصحةُ المعتلة للشاعر العراقي مظفر النواب (1934-2022) وقد كان آخر ما كتبه “مُتعبٌ منّي، ولا أقوى على حملي”.. وقد غادرنا اليوم، وكان النواب التزم الصمت في سنواته الأخيرة، وقد بلغ سنواته التسعين؛ لأنه يُعممَّ الحزنَ على الأسواق العربية كلها، وليست أسواق العراق فقط.. تلك الأسواق التي لم تحتمل مدنها قصيدةً قالها، وهو في ذروة عنفوانه الثوري، فمُنعت من المحيط إلى الخليج، أقول: عنفوانه الثوري، يوم كانت للثورة طعم حبق الصباحات، ونداها ولم تتلوث أو تقع بين براثن (برنارد هنري ليفي) ليكون مُنظرها الأول، ومن ثمّ لتُغرق الشوارع العربية في كربلائية لا مدى لحزنها..
تلك القصيدة – القدسُ عروس عروبتنا- والتي برغم منعها، غير أنها انتشرت حتى في أبعد وأقصى زاوية في العالم العربي تماماً كانتشار بيانٍ سياسي، فكثيراً ما كانت تُطالبه الجماهير بإلقائها في أماسيه وملتقياته الشعرية، غير أنه فيما بعد كان يُغيّر المفردات النابية فيها، وقد شعر – وهذه وجهة نظر شخصية – بعبء هذه القصيدة التي كادت أن تلتهم نتاجه الشعري كله، فلم يعد يُعرف إلا بها، وقد كتب مئات من قصائد الشعر العالي غيرها..
“أزوجها بنجوم الليل،
أطيل لدى موضع أسرار الخلق زياراتي،سوف أحدثكم في الفصل الثالث عن أحكام الهمزة،
في الفصل الرابع عن حكّام الردّة،
وأما الآن فحانات العالم فاترة..”
في أمسياته اتخذَ لها مظفر النواب أسلوباً لا أظن أنّ شاعراً كان له ما يُماثله، وهو إلقاء الشعر غناءً ولاسيما في شعره المحكي الحزين الذي كان يأخذ الحكاية الحزينة بكلِّ ملحميتها التراجيدية، بل ولشدة التأثر والاندماج في الحالة الشعرية كان يُغمى عليه في بعض الأحيان على المنبر.. منها على سبيل المثال واسطة عقده الشعري، القصيدة الرائعة (الريل وحمد).. النواب الذي أغنى نتاجه الشعري بمختلف أشكال القصيدة، وبكل أغراضها وشواغلها، فبرغم أصوله الارستقراطية غير أنه انحاز في شعره السياسي والاجتماعي لقاع المدينة ولهموم الناس المسحوقين، وأما في الغزل فقد شطح في شعر الحب حتى آخر خلجات الجسد.. “يا غريب الدار إنها أقدار، كل ما في الكون مقدار وأيام له، إلا الهوى ما يومه يوم، ولا مقداره مقدار”.. وربما الكثيرون يعلمون انتماء النواب لليسار العربي، وقد عرف أنه شيوعي الهوى ومن هنا كان أن طاردته سلطات بلاده وحكمت عليه محاكمها بالإعدام، حتى كان أن ضمتّه دمشق كما ضمت آلاف العراقيين غيره، وهنا في الشام عاش أكثر سنوات عمره تلك التي منحته له الحياة.. وهو من ردد يوماً: ” كل الذين رحلت على مائهم خذلوا قاربي.”..
“مو حزن لكن حزين
مثل ما تنقطع جوا المطر
شتلة ياسمين..
مو حزن لكن حزين
مثل صندوق العرس ينباع خردة عشق من تمضي السنين!
مو حزن لكن حزين
مثل بلبل قعد متأخر
لقي البستان كلها بلاي تين
مو حزن.. لا مو حزن..”

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار