“مونودراما” اجتماعية .. “ليلة أخيرة” تحكي قصص المجتمع ومأساة المواطن
بارعة جمعة
ضجيجُ المكان وأصوات الخوف المنتشرة في أرجائه، جعلت منه شخصيةً مهزوزة لا تقوى على المواجهة، يحمل بيده زجاجة خمرٍ معتَّق، يأوي بها إلى حيث لا أحد يعاتبه أو يقاضيه، إلى عالم يُنسيه خيباته وأحزانه، يهرب من عالمه الصغير بين الكتب، لإسقاط اللوم على زوجاته الثلاث اللاتي لم يسلمن من عتابه أيضاً، ف”عزيزة” مبذرةٌ وقليلة التدبير ورغم كل ذلك لم يسلم من خيانتها، أما “هدى” لم يستطع منعها عن شراهتها للطعام التي أودت بحياتها، أما “وردة” فكانت الزوجة قليلة الصبر والوفاء، ولم تحتمل البقاء معه بلا أولاد، لتبقى “خديجة” ميناء النجاة بالنسبة له والملجأ الوحيد بنظره، إلا أنه لم يسلم من طمعها وكذبها أيضاً، ليعود مرةً أخرى حاملاً فشله بين ثنايا الكلمات، التي لم تكفه للخروج من واقعه المرير، الذي بات يطارده حتى في أحلامه.
حمولة كبيرة
تناقضاتٌ عديدة حملتها شخصية الرجل الخمسيني “عباس” التي جسدها الفنان “مدين رحال”، فحبُّه للأولاد لم يدفع به لقبول فكرة التبني، وعجزه عن الاحتفاظ بزوجاته لم يُحفِّزه لإخراج أمواله المُخبَّأة، ليبقى متمسكاً بدور الضحية من دون الاعتراف بأنه هو الجاني، في حين أن العمل ببيع الكتب لم يعد مُجزياً ولا يأتي بشيء لصاحبه، لإسقاط هذه القيم على واقعنا المعيش، وانعكاسها على وضع الأسر بعدم قدرتها على تأمين احتياجاتها اليومية، وإبراز حالات عدة متمثلة بالجشع والطمع وحب امتلاك المال من “عباس” وحرمان عائلته من الاستفادة منه، يعكس العديد من النماذج الموجودة ضمن المجتمع، كل هذا وغيره ضمته القصص التي تجسدت بممثل واحد ضمن فن “المونودراما” على مسرح القباني بدمشق.
إلا أن المغامرة بمثل هذه التجربة الأولى للفنان “مدين رحال” تعتبر جرأة كبيرة وثقة عالية بالنفس من قبله، كما حملته مسؤولية كبيرة لحاجتها لاستحضار العديد من الشخصيات، ولكونه اعتاد على الصعود الى منابر الشعر والإلقاء أمام الجمهور، كان من البدهي خوض هذه التجربة لاعتماد كلا النوعين على “لغة الجسد”، كما تشكل هذه المغامرة عبئاً كبيراً على كاهل الممثل والمخرج بآن معاً، وهي أشبه باقتحام حقل ألغام برأي كاتب ومخرج المسرحية “محمد الحفري”، فالنص المسرحي هو الأساس، كما تختلف قدرات الممثل المؤدي للمونودراما، ولا يشترط لنجومية أي ممثل أن تخوله الأداء الصحيح، كما لتضافر الجهود الدور الأكبر بنجاح العمل على حد تعبيره.
نشاطات مستمرة
يمثل هذا العمل باكورة أعمال اتحاد الكتاب العرب في مجال المونودراما، سعياً منه لإحياء المسرح وتحريك الجمهور وإحياء التفاعل بين الناس، كما ستجول هذه المسرحية المحافظات كافة والمراكز الثقافية الكبيرة حسب تأكيدات نائب رئيس اتحاد الكتاب العرب “توفيق أحمد”، ولأن النص المسرحي هو الأساس وانطلاقاً من أهمية العمل به، كانت العودة بعمل “مونودراما” الذي يعتمد على الممثل الواحد هي السبب الرئيسي لتتماشى مع صعوبة تأمين ممثلين وتفادياً للتكلفة التي يتطلبها العمل المسرحي من ديكور وغيره برأي عضو المكتب التنفيذي للاتحاد والمسؤول عن نشاطاته “الأرقم الزعبي”، كما استهدف العمل إيصال رسالة الاتحاد بإلقاء الضوء على مهنة بيع الكتب باعتبارها ظاهرة طبيعية ومنتشرة في بلاد الغرب، لجهة أهمية دوران الكتاب المستعمل ودعم القراءة.
ولأن الابداع لايقترن بزمانٍ أو مكانٍ، لابُدَّ للإنسان من المثابرة والاجتهاد وعدم حصر نفسه بزاوية معينة، والبعد عن المحبطين، بهذه الكلمات خاطب الفنان “مدين رحال” جيل الشباب، داعياً الأهالي لإطلاق العنان لأبنائهم لخوض غِمار التجربة، فالمشاعر المكبوتة لاتموت أبداً بل تدفن في أعماقنا حية.