نوستالجيا شيرين الدرعاوي.. جغرافيا الجمال والعبور
اختارت الفنانة شيرين الدرعاوي في معرضها المقام حالياً في صالة مشوار، أن تترك عيون شخوصها مطفأة، فخلف ذلك السواد كان هناك بُعد مختلف ترسمه وتشير إليه لونياً أو عبر عناصر تبقي على الأفق مفتوحاً. تقول شيرين: ربما يكون النفق مظلماً في هذا الكون، لكن قدرية النوافذ تقتضي البحث عن الضوء بشكل دائم.
تتقن شيرين العزف على تشريح الجسد، فمهارات الخطوط والتلوينات تشير إلى تجربة غنية اختمرت بعد انقطاع عن المشهد دام عدة سنوات منذ معرضها الأول، وفي معرضها الثاني هذا تفتح آفاقاً جديدة وتستحضر الأفكار والمشاعر على شكل أجساد تتحرك، لأن الإنسان في حد ذاته فكرة بالنسبة إليها. هكذا تستطيع شيرين العبور إلى دواخل الأشخاص “نابشة” المشاعر وزرعها بالدلالات الانطباعية التي تختلف من مشاهد إلى آخر. هنا يستطيع العقل والروح أن يحلقا في التفاسير الخاصة حسبما ترتئيه العين والذائقة والمخيلة التي تركز شيرين على نحتها بكل أناة ودقة.
في المعرض حفرٌ عمودي باتجاه الأعماق، فالفنانة لا تعتمد على بواطن العناصر التي ترسمها وحسب، بل تمتلك صفاتها التشريحية واللونية المدهشة والجميلة، كأن تؤنسن الألم وتظهر جماليات الجانب المغفل من المناظر الطبيعية في الوجوه التي تحيط بنا في الشارع والبيت ومكان العمل.. ميزات سدّدت ما عليها على صعيد الشكل والمضمون، بشكل يبشر بخطوات مدهشة لاحقة لاشك سوف تقتحمها هذه التجربة التي تنمو مثل العشبة البرية بلا ضجيج.
على المتابع أن يتمتع بخطوط الشخصيات التي تظهر في دقائق الوجوه والأجساد، ثم يحاول تحليل الألوان المرافقة والعناصر التي تحيط بكل شخصية، كي يستطيع العبور بشكل كامل إلى العمل الذي يقدم نفسه من دون استئذان أو جوازات سفر للمخيلة.. هذه الأعمال بقدر ما تمتلك من الموهبة والحرفية المعتدة بنفسها، تحرص على البساطة في تقديم الحقائق وعدم الاستعراض في الإبهار، لأن هذه اللوحات تتمتع بتلقائية وعدم تكلف يغيب كثيراً عن المشهد التشكيلي اليوم. هكذا اختارت شيرين العودة إلى وجوه الأطفال كخيار في الرهان على الطبيعة البشرية النقية، فتفكيك تقاطيع البراءة يبدو عملية صعبة لكنها مغرية ومليئة بالمفاجآت المصرّة على العودة دائماً إلى العفوية والنقاء.
في نوستالجيا شيرين الدرعاوي الكثير من النوافذ التي يمكن أن تفتح كي يدخل ضوء الأفكار والمشاعر، فتتحرك ستائر المخيلة التي بقيت مسدلة في الذات البشرية المحتاجة دائماً إلى فك الطوق، كأن هذه اللوحات تفكّ أسر الاعتياد وتدفعنا بثقة إلى محيط الاحتمالات اللونية وجغرافيا الأجساد والوجوه.