عرّاب الثقافة الصينية… سلامة عبيد واضع أول قاموس عربي- صيني

لا، لن أكون،
وما خُلقتُ لأن أكونْ؛
قصباً يُرجفه النسيمُ، تستخفُّ به الرياحُ
ويُذلُّ في وجه الأعاصيرِ الغضابِ فيُتسباحُ
ربما تكون هذه القصيدة، والتي هي طويلة بعض الشيء، من أجمل ما كتب الأديب سلامة عبيد في الشعر، ذلك أن عبيد «1921 – 1984م»، بقي كلاسيكي القصيدة وفيّاً لبحورها وتفعيلاتها، غير أنّه كانت للرجل شواغله الإبداعية الكثيرة الأخرى، والتي لن يكون الشعر غير إحداها، الذي أجاد به في أكثر من ديوانٍ شعري.. فسلامة عبيد شاعرٌ، ومؤرخ، ومُترجم، كما أنه كتب الرواية الواقعية، وكتب المسرحية.. إضافةً إلى اهتمامه بالفنون والبيئة والآثار.. وفي زحمة هذا التنوّع الإبداعي؛ يبقى لعبيد واسطة عقد هذا الإبداع الأشهر بين تنويعاته، وهو ما أنجزه خلال تدريسه للغة العربية في كلية اللغات الشرقية في العاصمة الصينية- بكين لسنوات طويلة، وأقصد بذلك «القاموس الصيني – العربي الكبير»، والذي كان الأول من نوعه في العالم.
ومناسبة الحديث عن الأديب السوري سلامة عبيد ابن محافظة السويداء؛ هو إصدار الهيئة العامة السورية للكتاب-وزارة الثقافة مؤخراً كتابها الذي أصدرته ضمن سلسلة «أعلام ومبدعون»، وهو أقرب إلى كتب الببلوغرافيا من إعداد ابنته ضُحى عبيد، والذي كتبته الباحثة بأسلوب الحكاية على لسان عدة شخصيات هم أفراد عائلة سورية تتحاور فيما أنجزه الأديب الراحل وفضله الواسع على الثقافتين العربية والصينية، فخلال وجود عبيد في الصين -التي وصلها سنة 1972م- عمل على إنشاء قسم اللغة العربية، كما درّب كادره التدريسي خلال مدة إقامته في الصين.. قواميس أخرى كثيرة منها: «القاموس المُبوّب»، وهو قاموس صيني-عربي، يحتوي على أكثر من عشرين فصلاً، كل واحد مُخصصٌ منها لحقلٍ مُعيّن من الكلمات.. وهناك من نتاجه أيضاً؛ «قاموس الأمثال الصينية» مع شرحها، وما قد يُقابلها في العربية.
من نتاجات عبيد أيضاً؛ كتابه، وهو من الحجم الصغير «ذكريات الطفولة»، وقد احتوى على أربع عشرة ذكرى كتبها، وهو في الستين من عمره، وخلاله يحثُّ الذاكرة البعيدة لتأتي بالمشاهد السورية العتيقة ولاسيما خلال الاحتلالين العثماني والفرنسي، إضافة لصور نشوئه الأولى في مهبّ الفقر والتشرد.. تلك الصور القديمة التي شكلت إغواءً للمخرج رياض هاني ليُنجز منها، ويبني عليها فيلماً وثائقياً عن سلامة عبيد، والذي عنونه بـ«عناد السنديان».. وهنا نذكر أنه في سنته الحادية والعشرين ألّف عبيد مسرحيته الشعرية «اليرموك»، وقد مُثلت في السويداء سنة 1943م، وكذلك في العاصمة المصرية القاهرة سنة 1947م.. وفيها يقول:
والآن هيّا فقد حنّت جوانحُنا
إلى دمشق، ونادتنا المواعيدُ
إلى دمشقَ التي في الحرب يطربُها
وقعُ السلاح، وفي السلمِ الأغاريدُ
إلى دمشقَ التي في ظلِّ دوحتها
شابَ الزمانُ، وما تذوي الأمانيدُ..
أما روايته «أبو صابر- الثائر المنسي مرتين»؛ فهي رواية قائمة، أو مبنية على أحداث قصة حقيقية لرجل من محافظة السويداء، هو «حمد ذياب».. ذلك الشاب الذي أغرتّه حيناً بدلة الجندي الفرنسي اللامعة، وكذلك ما يُمنح من راتبٍ سخي، فالتحق بالجيش الفرنسي خلال انتداب فرنسا على سورية.. غير أن ظلم الأخيرة للسوريين جعله يضرب ضابطاً فرنسيّاً، ومن ثمّ التحاقه بالثوار، وعند اعتقاله حُكم عليه بالإعدام، ثمّ خُفف الحكم إلى الأشغال الشاقة والنفي إلى جزيرة الغويانا حيث الغابات الكثيفة والمليئة بالأفاعي، وبعد مُضي عشرين عاماً في المنفى، يعود حمد ذياب.. وعندما فازت الرواية بجائزة وزارة الثقافة سنة 1970م.. قدّم المؤلف سلامة عبيد قيمة الجائزة المالية لبطلها الحقيقي (ذياب).. كما يبرز كتابه (الثورة السورية الكبرى على ضوء وثائق لم تُنشر 1925-1927م) كمرجع بحثي وتاريخي، والذي اشتغل على إنجازه ما يزيد على ربع قرن من السنوات..
ما أختم به للأديب السوري سلامة عبيد؛ ببعض من أبيات قصيدته التي تُقارب ما تمناه يوماً الشاعر السوري المهجري نسيب عريضة (1888 – 1946م)، حيث أوصى عريضة في قصيدة طويلة له بعنوان: « صورٌ تلوحُ الخاطرِ المعمودِ»: بأن يعودوا به إلى مدينة «أم الحجار السود»، ويقصد مدينة حمص، ولو «حشو الكفن» :
لبنانُ دونكَ ساجدٌ مُتعبّدٌ
هو عاشقٌ من دمه لكِ مورد
وارحمتا لمُتيّمٍ مصفودِ
يسقي الهوى من قلبه الجُلمودِ
عُد بي إلى حمصٍ ولو حشو الكفن،
واهتف أتيتُ بعاثرٍ مردودِ
واجعل ضريحي من حجارٍ سودِ
أما سلامة عبيد؛ فقد تمنى هو الآخر في إحدى قصائده؛ ألاّ يُغمضُ جفونه في غير أرض بلاده، وأن يُمتّع ناظريه برؤيتها، حتى ولو يوماً واحداً.. وهذا ما تحقق لعبيد، فقد توفي بعد يومٍ واحد من وصوله لمدينته السويداء.. يقول في قصيدته «الله والغريب»:
يا ربُّ لا تُغمضُ جفوني هُنا
هنا قلوبُ الناسِ بيضاءُ
وأرضهمُ ماءٌ وأفياءُ
لكنّ بي شوقاً إلى أرضي
لجبلِ الريّان والساحل
أُلقي عليها نظرةَ الرَّاحل

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار