برتراند راسل يصحبنا بنزهة على “دروب الحرية”

الحرية- بديع صنيج: 

من يقرأ كتاب “دروب الحرية” لبرتراند راسل الصادر عن دار نينوى للدراسات والنشر بدمشق بترجمة جبران خزعل، يشعر أنه لايزال ذا صلة بأيامنا هذه رغم أنه نشر قبل أكثر من قرن من الزمان، فضلاً عن التأكد من أن فكر راسل الثاقب ووضوحه الأخلاقي مكَّناه من شرح الإيديولوجيات السياسية المعقدة بمزيج نادر من الصرامة العلمية والدعوة العاطفية للكرامة الإنسانية، من خلال فحص آليات القوة والإنتاج والوفاء البشري، بحيث إنه يحفز على إعادة التفكير في أسس العدالة الاجتماعية، ومحاولة استكشاف الحلول الجذرية التي تَعد بالحرية الحقيقية، لذا فإن نقاداً كثيرين يعتبرون كتاب “درب الحرية”، أو “السبل المقترحة إلى الحرية” في ترجمات أخرى، هو نزهة ممتعة ومقنعة في قلب الفكر السياسي.

ويندرج الكتاب ضمن المحاولات الفكرية لتصور تنظيم أفضل للمجتمع الإنساني من الفوضى المدمرة المتوحشة التي وجد الجنس البشري نفسه فيها إلى اليوم، لاسيما في ظل استشراء الشرور التي يتيح لها البشر أن تستمر بلا مسوغ، ولذلك فإن الفيلسوف البريطاني بعد نظرة متأنية في التعريف بكل من الاشتراكية والفوضوية والنقابية، والشرور التي تكتنف كلاً منها، فإنه يضع ملاحظاته الموضوعية حول كل منها خاصةً أنه كتب كتابه هذا عام 1918 في زمن كانت الفوضوية والنقابية لا تزالان نشيطتين إلى حدّ ما، ولم تكن الدولة قد قمعتهما بعد، بينما الثورة الشيوعية في روسيا كانت لاتزال شيئاً جديداً، لذا فقد كان راسل يحلل من دون التحيز الذي ألقاه استبداد النظام السوفييتي على الاشتراكية، متكئاً على مفهوم عام قائم على أن الاشتراكية والفوضوية نشأتا على قاعدة أن رأس المال الخاص هو مصدر الطغيان من قبل أفراد معينين على آخرين، وفي حين تعتقد الاشتراكية الأرثوذكسية أن الفرد سيصبح حراً إذا أصبحت الدولة هي الرأسمالية الوحيدة، فإن الفوضوية، على العكس من ذلك، تخشى أن ترث الدولة في هذه الحالة تقريباً الميول الاستبدادية للرأسمالي الخاص، وبناءً على ذلك، تسعى إلى إيجاد وسيلة للتوفيق بين الملكية الجماعية وأقصى قدر من التخفيض في سلطات الدولة.

في حين أن النقابيين يهدفون إلى تنظيم الناس، ليس على أساس الحزب، بل على أساس المهنة، ويقولون إن هذا وحده يمثل المفهوم والطريقة الحقيقية لمواجهة الحرب الطبقية، وتالياً فإنهم يزدرون كل عمل سياسي عن طريق وسيلتي البرلمان والانتخابات، وبالنسبة لهم فإن نوع العمل الذي يوصون به هو العمل المباشر من قبل النقابة الثورية أو النقابة العمالية، وفي النهاية فإنهم يعتقدون أنه لا يمكن أن تكون هناك حرية فردية كافية حيث تكون الدولة قوية للغاية، حتى لو كانت الدولة اشتراكية.

حرب الطبقات

يبدأ راسل كتابه بالجانب التاريخي للحركات الثلاث، إذ يختصر ضمن فصل “ماركس والمذهب الاشتراكي” المفاهيم الرئيسية للمنظر الاقتصادي الألماني بـ”التفسير المادي للتاريخ” المتمحور حول أن جميع ظواهر المجتمع البشري تعود بشكل رئيسي إلى الشروط المادية، ففي الماضي جرت ثورة البرجوازية ضد الإقطاع وفي المستقبل ستقوم ثورة البروليتاريا ضد البرجوازية التي ستقيم التوافق في المجتمع الاشتراكي بما فيه خير البشرية، أما المفهوم الثاني فهو “قانون تركز رأس المال” ويتنبأ فيه ماركس بأن الرأسماليات الكبيرة ستهضم الصغيرة، وبمرور الوقت سيغدو الرأسماليون أضعف فأضعف من الناحية العددية، ما سيزيد شرور النظام الرأسمالي وظلمه، مما سيستنهض قوى المعارضة أكثر فأكثر، ونتيجة ذلك يتحدث عن مفهومه الثالث “حرب الطبقات” الناجم عن أن كل إنسان هو إما عامل بالأجر أو رأسمالي، ونتيجة توسع النظام الرأسمالي واتضاح طبيعته، تتوضح أكثر معالم التعارض بين البرجوازية والبروليتاريا بصورة أكبر، وتُدفع الطبقتان إلى خوض حرب تولِّد داخل النظام الرأسمالي قوى تفتُّتِه الداخلية، وكل ذلك تم تفصيله في “البيان الشيوعي”.

ويشرح راسل كيف قام “بيرنشتاين” وهو اشتراكي ألماني بحركة تنقيحية لأفكار ماركس، بحيث مثَّل ذاك المنظر تفسخ الأرثوذكسية الماركسية من الداخل، في حين مثلت النقابية هجوماً عليها من الخارج، وهو ما أبرزه “سوريل” في كتابه “تفكيك الماركسية” وأيضاً في عمله الأضخم “تأملات حول العنف”.

معارضة الحكم القسري

أما في فصل “باكونين والفوضوية” فتتبدى النظرية التي تعارض كل أشكال الحكم القسري، على اعتباره تجسيداً للقوة المستخدمة في حكم المجتمع، إذ هناك رفض للمؤسسات التي تُفرض من خلالها إرادة قسم من المجتمع على قسم آخر، كالشرطة والقانون الجنائي، حتى إن الصيغة الديمقراطية للحكومة هي بنظر الفوضويين ليست أفضل بكثير من الصيغ الأخرى ، لذلك تبقى الحرية هي الخير الأسمى الذي يتم السعي إليه عبر طريق

مباشر يلغي كل سيطرة على الفرد من قبل الجماعة.

ومثلما كان ماركس مؤسس الاشتراكية الحديثة، فإن ميخائيل باكونين هو مؤسس “الشيوعية الفوضوية” الذي يقول في كتابه الأشهر “الله والدولة” إن “الدولة ليست المجتمع، وإنما هي شكل تاريخي من أشكاله فحسب، شكل متوحش بقدر ما هو مجرد، وُلدت الدولة تاريخيا، وبكلمة، من الحرب والغزو،

بينما يلجأ راسل في فصل “التمرد النقابي” إلى التأكيد على أهمية “متعة العمل” بعدما حولت الرأسمالية العمل إلى نشاط تجاري صرف، أمرٌ لا روح فيه ولا متعة، ويدعو ذاك التمرد إلى استبدال تربُّح القلّة بالخدمة الوطنية للنقابات، والسلع الرائجة بالعمل المسؤول، والبيروقراطية وضخامة الدولة مع شركاتها الحديثة بالاستقلال الذاتي ونزع المركزية، لأنه بذلك وحده سيفخر البشر بجودة عملهم لا بكميته فقط، وبذلك ينشغل النقابيون بنيل الحرية في العمل أكثر من انشغالهم بزيادة الرفاه المادي، من خلال القضاء على مظاهر الاضطهاد كلها، وتحرير الطاقات البناءة للإنسان.

الحرية والعدالة

بعد ذلك ينطلق الفيلسوف البريطاني لمناقشة مشكلات المستقبل وأهمها “العمل والأجر”، وبرأيه فإنه من الضروري توفير ضروريات الحياة كلها بالمجان لجميع الناس، شريطة أن يعمل معظمهم لعدد معقول من الساعات، وأن يعود عملهم بأقصى مردودية يتيحها العلم والتنظيم، وتالياً أن يوفر دخلاً محدوداً يكفي لتأمين الضروريات، ومنح دخل أعلى، إلى الحد الذي يُسمح به للراغبين بتولي عمل معين يعدّه المجتمع مفيداً، وبالمعنى العام أن تُدمج الحرية مع العدالة.

وفيما يتعلق بمشكلة “الحكومة والقانون” التي تنطوي بجوهرها على قيود على الحرية التي هي أعظم الفضائل السياسية، فالحل الأساسي يكون قائماً على أن المجتمع المعافى لا يمكن أن يولد من تعظيم شأن الدولة، بل من النمو غير المقيد للأفراد.

أما كل ما يخص الأهداف الرئيسية التي يتعين على “العلاقات الدولية” تحقيقها فتتلخص بتجنب الحروب، ومنع اضطهاد الأمم القوية للأمم الضعيفة، لذا ينبغي الالتفات إلى الحاجات الأساسية للطبيعة البشرية، وتالياً نشر السعادة التي تتنافى مع الرغبة بخوض الحرب وأيضاً مع العدائية الحقودة التي يفرضها وجودنا المأزوم.

الفن والعلم

ولتبقى مسألة “الفن والعلم في ظل الاشتراكية” هامة جداً، وتقتضي تقدير الفن والفنانين من قبل المجتمع وألا نكتفي بتقييم كل شيء بحسب منفعته، ولذلك فإن تلطيف حدة صراعات العيش وتخفيض ساعات العمل وتقليل أعباء الوجود، التي ستنتج عن نظام اقتصادي أفضل، كل ذلك لن يعجز عن زيادة متع الحياة والطاقة اللازمة لخلق بهجة صرفة في العالم، وتمتُّع عفوي أكبر بالجماليات وأعمال الفنانين.

ويخلص راسل في فصل “العالم كما يمكن أن يصبح” إلى أن: “الفوضوية الصرفة بالرغم من كونها الغاية القصوى التي يجب على المجتمع أن يدنو منها باستمرار، مستحيلةٌ في الوقت الراهن، وأنها لن تدوم لأكثر من عام أو عامين على أقصى تقدير في حال تبنّيها.

من الجهة الأخرى وبالرغم من مساوئ عديدة تشوبهما، تبدو لي كل من الاشتراكية الماركسية والنقابية مؤهلتين لتقيما عالماً أفضل وأكثر سعادة من عالمنا هذا، غير أني لا أعدّ أياً منهما أفضل نظاماً للتطبيق، ستمنح الاشتراكية الماركسية، كما أخشى، سلطة مفرطة للدولة، في حين أعتقد أن النقابية ستجد نفسها مرغمة على إعادة بناء سلطة مركزية من أجل وضع نهاية للمنافسة بين المجموعات المختلفة من المنتجين. النظام الأفضل القابل للتطبيق هو، حسبما أرى، نظام الاشتراكية النقابية الذي يقر بما هو صائب في مزاعم كل من اشتراكيي الدولة والخوف النقابي من الدولة، عبر تبنيه نظاماً فيدرالياً بين المهن لأسباب مماثلة لتلك التي تدفع باتجاه الفيدرالية بين الأمم”.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار