لأن الإذاعة كانت جامعةً ثقافية ومعرفية موجهة إلى الشعب العربي من المحيط إلى الخليج، ولم تسمح لها التقنيات أن تكون في متناول الأسماع المليونية، عُمِد إلى تبادل البرامج عبر “اتحاد الإذاعات” وكان من نصيب إذاعة دمشق إنتاجُ برنامج عن أديبٍ سوريّ!
حسناً! إنها فرصة لتسليط الضوء على كاتب لم تتعب منه وسائل الإعلام، ولم تُحوَّل أعماله إلى أفلامٍ سينمائية ومسلسلات تلفزيونية أو تؤخذ مقتطفاتٌ من كتاباته لتوضع في مقررات دراسية، فكل التواصل كان محلياً في ذلك الزمان، لذلك ذهب بحثي مباشرة إلى الكاتب “عليّ خلقي” وإذ وجدت أنه صاحب مجموعة واحدة هي “ربيعٌ وخريف” ذهبت إلى “فؤاد الشايب” فوجدته أيضاً صاحب مجموعة واحدة هي “تاريخ جرح”! وفي البحث المتأني عن الشخصيتين (حيث لا وسائل اتصال تُحضر المعلومات بلمسة زر) سيطول الوقت وتتزايد المتعة، كما لو أن المرء يرفع غطاءً عن درَجٍ متسلسل ويهبط رويداً، رويداً، إلى قاعات سحرية مليئة بما يبهر الفؤاد والبصر كما في حكايات الأطفال. سأكتشف أن الكاتبين ولدا عام 1911. وأن “عليّ” ابن “دوما” و”فؤاد” ابن “معلولا” رغم أنه ولد في البرازيل قبل أن يعود إلى سورية ويكمل تعليمه فيها، وفي سيرة كل واحدٍ منهما تفاصيل نقيضةُ الأخرى فَـ “خلقي” عرف العوز المادي والعاطفي منذ طفولة مبكرة، ورغم مغادرته بيت أخيه الذي آواه بعد وفاة أبيه وتنقله بين دمشق وبيروت لم يعرف الاستقرار والرفاهية وحتى عمله في التعليم مارسه في المحافظات النائية عن العاصمة، بينما عُيّن “الشايب” مديراً لإذاعة دمشق عام 1948 ثم مديراً للمكتب الصحفي في القصر الجمهوري أيام “شكري القوتلي” ثم مندوباً لجامعة الدول العربية في “بيونس آيرس”!
توجّب عليّ أن أترك هذه التفاصيل القيمة، خاصة وفاة “الشايب” بنوبة قلبية عام 1970 بعد إحراق صهيونيٍّ متطرف مقرَّ الجامعة انتقاماً من محاضرة ألقاها “الشايب” عن مخاطر الصهيونية وعنصريتها وقد أتى الحريق على كثير من المخطوطات والوثائق، توجب أن أنصرف إلى العمل الأدبي حصراً، وفي قراءتي لقصص الكاتبين، رأيت أصل الفن الرفيع للقصة القصيرة التي برع فيها كتابٌ لمعت أسماؤهم فيما بعد، وتنوّعت أساليبُهم، حتى بات النقاد يعمدون في دراساتهم للقصة السورية المعاصرة إلى إصدارها في أجزاء لكثرة الكتاب وغزارة الأعمال!
المشترَك بين “خلقي” و”الشايب” ليست سنة الميلاد وحدها، وليست المجموعة القصصية الوحيدة وحدها، بل الإبداع العالي، الذي لا يحتاج على ما يبدو إلى الكثرة ليشكل ينبوعاً للأجيال.