علامة فارقة في المشهد التشكيلي السوري… الفنانة التشكيلية الدكتورة بُثينة علي (وداعاً)

علي الرّاعي:
“تبكي مراسم كلية الفنون الجميلة، خيمة البدوي، فضاء الرواق العربي، آلاف الحمامات البيضاء في حارات دمشق القديمة، وساحة الحطب في حلب، أطلال حديقة الأطفال في المخيم، مرسم القيمرية، شرفة البريد، حديقة المتحف.. حيث لا تزال روحك المبدعة تُحلّق فيها.. تبكيك عيوننا جميعاً، أهل وأصدقاء وزملاء وطلاب..”

تحليق خارج المكان
بهذه الكلمات المؤثرة نعى الناقد التشكيلي سعد القاسم الفنانة التشكيلية الدكتورة بُثينة علي (1974-2024) التي غادرت دنيانا هذا اليوم.. والحقيقة إنّ ما أشار إليه الصديق سعد القاسم في رثائه من أسماء؛ هي عناوين وأمكنة لمعارض الفنانة بُثينة التي من خلالها حجزت لنفسها المكان اللائق، وسجلت علامتها الفارقة في المشهد التشكيلي السوري الذي وزعتّه في منحيين اثنين: التدريس في كلية الفنون الجميلة، وتسجيل بصمتها الفنية التي فارقت فيها ليس المحترف السوري التشكيلي بشكلٍ عام، وإنما حتى اختصاصها الذي كان في (التصوير)، حيث اتجهت صوب الفن المفاهيمي، الذي لا يتعدى المشتغلون فيه عدد أصابع اليد الواحدة في سورية، وربما هي الوحيدة التي لم تشتغل إلا من خلاله، وفي فضاءاته..
فلأنّ اللوحة محكومةٌ بأبعادٍ، ولأنّ النحتَ محكومٌ أيضاً بالكتلة والفراغ، لذلك كان على بُثينة، أنْ تجدَ فضاءاتٍ أخرى، لتقدم نتاجها التشكيلي المُفارق في المشهد التشكيلي السوري، ذلك أنها وجدتْ في إطارات اللوحة حيزاً غير كافٍ لأن يستوعب تدافع الأفكار لديها، فاتجهت صوب فضاءاتٍ أوسع، صوب اتجاهٍ تشكيليِ آخر، قد يضم كلَّ ما سبق في تفاصيله، فكان فن التجهيز، أو التركيب، أو كما يُسمى المفاهيمي.. الخيار الأهم في تجربتها، لتقدم من خلاله عشرات العروض الفنية في سورية، وخارجها.. رغم أنها خريجة قسم التصوير في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق، وهي أستاذة فيه أيضاً..

من خيمة بدوية
مع هذه التجربة التشكيلية المُفارقة للمشهد التشكيلي السوري، على الأقل بإخلاصها لفن التجهيز، أو التركيب،  حيثُ كانت البداية من خيمة بدوية سنة 2001 – تقول بُثينة – اشتغلت خلاله على أكثر من تناقض ومفارقة، تلك الخطوة التي من خلالها خرجت من أبعاد اللوحة المتعارف عليها إلى فضاءات فنون التجهيز، والطريف كان ذلك في باريس العاصمة الفرنسية، هناك حيث شعرت  – كما قالت لي – أنها بحاجةٍ لتوزيع زحمة الأفكار وتدافعها في مساراتٍ كثيرة: الإضاءة، الصوت، الشغل على الفراغ، ودعوة المتلقي ليكون مشاركاً حقيقياً في المشهد التشكيلي. وبعد العرض في باريس أعادت العرض مرةً تالية في حديقة المتحف الوطني بدمشق، بكل تلك المتناقضات بين قسوة الصحاري وفقرها بالألوان، حيث يعوّض ” البدوي” ذلك اليباب بالمبالغة في تلوين خيمته وتزيينها، فقد جمعت خلال ذلك ” التركيب” بين هذين المتناقضين، بل وكيف يستخدم ساكن الخيمة الأدوات المعاصرة بمنتهى العفوية.. وكانت استوحت هذا العرض من حياة سكان البادية، ومن مفردات عيشهم في بيوت الشعر، ذلك المعرض الذي كان نتاجٍ لبحثٍ استغرق معها سبع سنوات عن البدو، وكان ختامها –المعرض- مشروع تخرجها من السوربون.
هذا المعرض الذي أحدث صدمة حينها، فكررت ذلك، بمعرض تالٍ، هو معرض “وعود” في صالة الأتاسي بدمشق سنة 2003 والذي قدمته بلونين الأبيض والأسود، حيث استمدّت أفكاره من وحي الانتفاضة الفلسطينية حينها، ومن ثمَّ الغزو الغربي للعراق، وخلاله قالت إدانتها الصارخة للعنف والحرب والتدخل المدفوع بغطرسة القوة في شؤون الدول، وتدمير الأوطان.
ولتنفيذ فكرة معرضها المذكور؛ استخدمت كلَّ الخامات المتوافرة والنفايات بدءاً من الأسلاك المعدنية، فالدمى والحجارة والأخشاب مروراً بالملابس القديمة والعظام وورق الجرائد وما شابه، كذلك لجأت إلى تركيب كلِّ التقنيات الممكنة بدءاً من الحرق فاللصق والبخ وتسليط بؤر الضوء من الخارج، وفي بناء لوحاتها اعتمدت مبدأ الكولاج على خلفية اصطبغت غالباً بألوان الرماد الداكنة، أُلصقت عليها بشكلٍ نافر مفردات اللوحة من دمى محروقة وما شابه، وسال من جنباتها اللون الأحمر.. باختصار سخرّت الفنانة كلَّ ما تمتلكه من أدواتٍ ومعارف وطاقة لتقول لا للحرب والعدوان وقتل الأبرياء وانتهاك حياة البشر.

أراجيح بُثينة
وبعد ذلك بقليل ستقدم بُثينة معرضها الثالث الذي سمته “إيروس” الذي ذهب باتجاه مفاهيم الشهوانية والحب، فقدمته في أكثر من مدينة عربية وعالمية بين عامي 2004 و2005.. أما مفاهيم مثل: العدالة المساوة، المعاش، سكون، درب، صمت، جسد، موت.. وكلمات كثيرة تشبهها، فسيكون هنا لترتيبها ثمة قصدية لقول فكرةٍ ما، كلمات هي مكرسة في الذاكرة، وفي الحياة المعيشة، على أنها تعني الثبات، القوة، الاستمرار.. لكن ماذا لو انتزعت مثل هذه المفردات من سياقها الذاكري أو اليومي المعيش، ووضعت على (أراجيح)، ذلك ما فعلته بُثينة علي في معرضها ” نحن” في صالة الرواق بدمشق سنة 2006..

نصبت بُثينة أراجيحها كغابةٍ في المسارب الثلاثة لصالة الرواق بدمشق، ورغم الهدوء الذي يسود هذه «الغابة من الأراجيح»، الذي يبدو أنه هدوء ما قبل العاصفة، إذ ليست ثمة أشياء متجذرة، فالمفردات التي كنا نحسبها راسخة، ها هي على أرجوحة تكفي نسمة لأن تهزها.. يأتي الصوت الموازي الذي يردد تلك الكلمات إضافة للسلايدات، في ذلك الكون الواهم ليؤكدان أيضاً وهمية الثبات، أو ما كنا نظنه ثابتاً.. ‏يعزز ذلك تلك الأرضية الرملية التي نثرتها في المسارب الثلاثة تحت غابة الأراجيح (328) أرجوحة، و من ثم (328) مفردة.. المفردات التي هي بتقديري معادل لنا كبشر، فتلك التي اخترعناها هي نحن، ومن هنا فإن تلك الأراجيح تفضح اهتزازنا، وهشاشتنا التي تنكسر مع أول هبة ريح..!!
وفي باريس ستقيم بُثينة معرضها الخامس بأكثر جرأة‏ وقد أسمته “ماريونيت” أو “دُمى” سنة 2007، وخلاله كان ثمة قول أفكار كثيرة بعيدة عن الحب، والذي استوحته من بسطات الثياب الداخلية في سوق الحميدية، ونظرة الرجال والنساء لموضوع الثياب الداخلية النسائية، بل ووجهات نظر من مختلف الأعمار ومن جنسيات مختلفة.. أصوات وأفكار تتداخل مع عرض تلك الثياب بطريقة التركيب التي تستثمر أكثر من تقنية لإيصال الفكرة بهذا القالب الجمالي.

أنا ونحن
وفي كندا ستُقيم بُثينة معرضها “أمثلة” وخلاله تبحث في موضوع التباس الهوية، وقد وجدت ضالتها في خمسة أشخاص من جنسيات مختلفة يقيمون في بلاد الغربة أو المهجر، ولدوا في أراضٍ بعيدة غير أوطانهم الأصلية، وكان البحث أو العرض، كيف ينظر هذا الكائن “المغترب” على موضوعة “الوطن” تسأله على سبيل المثال أنت من أي بلد؟، فيجيبك: من الجزائر، تسأله هل تعرف الجزائر يُجيبك: لا…!! أي هو يصر على هوية وطن قديم لم يره أو يعيش في جنباته الحميمية، فهم يولدون هنا، ويشعرون هناك، ولا يستطيعون العيش هناك، كما لا يستطيعون العيش هنا، وفي المحصلة حصاد من مواسم الخسارة.
وفي معرضها بالقاهرة ستطلق الذي عليه “الأنا” أو بمعنى “أخجل” هذا المعرض الذي جاء بوحيِ من الحرب الصهيونية على غزة، و”أخجل” هنا، تأتي كتأكيد على ضرورة خجلنا كبني آدميين كما ندعي وسط كل هذا الخراب والقتل.. وخلال هذا المعرض أخذت الفنانة (750) صورة لأطفال غزة الممزقين بآلة القتل الإسرائيلية في عملٍ واحد أبعاده ( 7م/3م).. صور تتساقط مع تعليقاتها من كلام عند كل هبة لنسمة..!‏
أما في معرض “حمّام السوق” فستعود بُثينة علي إلى لعبتها الأثيرة المحببة لنفسها، وهي هذا التناوب والتنويع بين المجرد والمحسوس.. حمّام السوق الذي هو المرأة، في هذا السوق الذي يُشكّلُ بالنسبة للمرأة حديقة صغيرة، تتركُ كلَّ همومها وسجنها الكبير وراءها لتتحرر ليومٍ واحد في الأسبوع.
ومن معارض الفنانة بُثينة علي فكان معرض “لماذا” الذي أخذت فكرته من المقلاع، أو كم يُطلق عليه في بعض القرى السورية “النقيفة” تلك النقيفات أو المقالع ال “22” كإشارة لدول العالم العربي، تلك الدول التي تقذف بأبنائها إلى أمكنةٍ قصية.. إلى أماكن ليست لنا، أماكن نصبح فيها نوعاً من العالة.

وفي الختام
بهذه المعارض كلها فإن بُثينة علي تخالف ما يُطالب به البعض من شروط في الفن التشكيلي.. « يجب رؤية اللوحة بالمتعة البصرية لا الفكرية، وبالمتعة اللونية لا الشكلية ».. فقد أضافت الفنانة لذلك المتع المتعة الفكرية أيضاً، وبتكثيف المشاعر، وبجمال الحركة والتأليف.. ورغم الأفكار التي تطغى على أعمال بُثينة علي، فليس معنى ذلك أنها بعيدة عن الجماليات البصرية ومتعتها، بل هي في الحقيقة حريصة على الاثنين معاً.. حيث يوفر العمل التركيبي مصداقية تختلف أيضاً عن مصداقية الأعمال الأخرى، كونه يتعامل مع مفردات لها علاقة بحياتنا، حتى عنوان المعرض يندرج ضمن هذا الإطار: «نحن، أنا، اخجل ..إلخ ».. عالمٌ يستطيع المرء أن يتحسسه انطلاقاً من أدوات بسيطة: حبال مشدودة إلى السقف تنتهي من الأسفل بقطع من الكاوتشوك مُشكلةً الأراجيح، التي تعيدنا إلى الذاكرة الطفلية في صيرورتها، وبما خزنته من أفكار.. وكلمات تأتي في المعرض بطريقة متوازية، في تجسيد المجردات وتجريد ما كنا نظنه مُجسداً. ‏

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار