المعرض السنوي في المتحف الوطني بدمشق.. قوس قزح الفن في مواجهة غبار الحياة!
تشرين- جواد ديوب:
كما هي العادة في معظم معارض الفن التشكيلي لدينا، تمتلئ صالة العرض بالحضور الرسمي والمهتمين والفنانين أصحاب اللوحات وبعض طلاب كلية الفنون الجميلة.. ثم وللأسف لا نجد أحداً منهم في باقي أيام المعرض!
وهذا ما حصل… إذ مررت على معرض الفن والنحت المقام في المتحف الوطني بدمشق ولم أجد أحداَ، لا أصحاب اللوحات والمنحوتات ولا المشرفين على المعرض، ولا أي زائر. كنت أنا وبعض حراس المتحف الجالسين في هدوء تام، وكدنا نتحول إلى تماثيلَ حجرية من شدة الهدوء الذي “يعصف” بقاعات المتحف، لولا أنه بلمسةٍ سحرية من يدِ الخيال سمعتُ خلف ظهري صوت هدهدة طفل قادمة من لوحة (الفنانة أسماء الفيومي): أبٌ وأمٌّ يحملان طفلين في حضنهما، ويبدو الأب قد حضن أسرته بوداعة شكّلتها الفيومي بألوان زاهية صفراء وخضراء مثل زهرات ربيعٍ لطيف.
شعرتُ أنني أطوف على غيمة من ألوان، أو كما لو أنني دخلت فقاعة الفن السحرية إذ كانت شخوص لوحة (الفنان نبيل السمان) طفلاتٌ يلعبن جوار والدتهن، فتاةٌ تُرقِّصُ حصانَها؛ وأخرى تعزفُ هواجسها وشوقها وإلى جوارها كبشٌ وديك يحيلاننا بما يرمزان إلى ذكورةٍ غائبة… وكلهم في دائرة تشبه دائرة الأبراج الفلكية يدورون حول أقدارهم ومعها وفيها.
شخوصُ السمان كانوا يتحاورون مع شخوص لوحة (معتز العمري) هناك حيث السنونوات تنقل بشارة الحب لنساء منتظرات إلى جوار ما يبدو مثل نهر أزرق رفيع يُذكر بـ(حويجات نهر الفرات).
فيما غرابُ (أحمد أبو زينة) يبدو مبتهجاً بأحمر قانٍ غطى كامل اللوحة ومنتظراً حصته من فريسةٍ ما.. لولا أن بهجة ألوان الغابة في عمق وأعلى المنظر يجعلنا نرتاحُ إلى وجودِ أملٍ ما يلوح هناك في أفق المكان.
وفي عمق المكان جلس أدونيس بهدوء شاعرٍ عارفٍ (لوحة الفنان بديع جحجاح) بكامل ألقه الواقعي وأناقته يدخن سيجاراً وشارداً في قصيدة، أو ربما يتأمل وجوه (أكسم السلوم) التي تبدو بلا ملامح شاردةً في اللا معنى الكئيب الرماديّ لهذه الحياة في شبه طِباقٍ مع وجوه (كندة معروف) الفحمية بعيونها الكسيرة الحزينة، بينما أغمضت أنثى لوحة (إسماعيل نصرة) عينيها وحاولت أن تبتهجَ بألوان أطياف أحلامها.
في زاوية الصالة حفيفُ قصبٍ ووشوشةُ طيورِ (عمار الشوا) كأنها تنتظر أن يعودَ “الطائرُ الأخضر من زيارة غزة” في لوحة (عدنان حميدة) ليخبرها عن مشاهداته ومعاناتهم وآلامهم وجروح الأجساد والأرواح.
في لحظةً ما كدتُ أتحول أنا أيضاً إلى طائر حين هبت نسمة لطيفة من لوحة (عصام درويش) حركت ستائر غرفة صبيةٍ عاشقة تتأمل تفاحةَ الرغبة في يدها فيما أشجار الكرم يسبح فيها الناظر من النافذة إلى مدىً من ساعةٍ مريحة.
وفي لحظة سحرية ثانية صرتُ غائصاً في زحمة مقهى (الفنان موفق مخّول) حيث الأحاديثُ همهماتٍ؛ والهمهماتُ استغاثاتٌ وشكوى، والاستغاثاتُ نميمةٌ أو ذكرياتٍ حزينة سوداء بلون حزن الزبائن الندامى.
لوحاتٌ وحكاياتٌ وأصداءُ حكاياتٍ معلقة على جدران صالة المعرض وأنا أحوم لوحدي مثل فراشة على وجه الغمر.. معظمها له تفرده وجمالياته، لكني كتبت عن تلك التي حصل بيني وبينها تواصلٌ ما، تلك التي شاكستني رغم أنّ ما لم أكتب عنها قد تستهويني يوماً ما، وفي لحظةِ تجلٍّ قادمة!
قبل أن أغادر فضاء المكان نظرت إلى الخلف كانت كائنات اللوحات كما لو أنها في رحلة صيفية تلتفُّ حول نهر (عبد الله أبو عسلي) الرقراقِ المرسومِ كأنه الطبيعة ذاتها تتدفق في قلب المتحف وبين شجيراته وأحجاره.
تركتُ الجميع غارقين في الألوان وغيماتِ الفن القزحية، وخرجت إلى زحمة البشر الفانين المعذبين بيومياتهم تحت جسر الرئيس؛ خرجت وفي روحي جرعةُ فنٍّ مُسكِرة ولازمةٍ في هذا الزمن الأغبر!
يذكر أن معرض المتحف الوطني بدمشق (لأعمال النحت والتصوير والحفر والتصوير الضوئي) جاء ضمن سلسلة معارض متنوعة وغنية في معظم صالات المعارض الخاصة والرسمية بمناسبة (أيام الفن التشكيلي السوري السابع للعام ٢٠٢٤) وقد تم في افتتاحه تكريم كل من التشكيليين: بطرس خازم، عون الدروبي، وعناية بخاري.