لغةٌ تسكنه وينبض بها قلبه.. المترجم نوفل نيوف: اللغة الروسية وثقافتها جزءٌ أساسيّ من تكويني..

حوار: جواد ديوب:
يقرأ ويترجمُ بمتعةٍ وأناةٍ وشوق! لا يملُّ، ولا يحسب للوقت حساباً، ويعتقد أنه بغير ذلك قد ينشرُ المترجمُ كتباً ويحصلُ على بعضِ مال، إلّا أنه لن يُقدِّمَ ترجمةً يقدّرها القراء وتعيش طويلاً.
ولا يتفق المترجم الدكتور نوفل نيوف مع من يقول إنّ (المترجمَ خائنٌ) بمعنى أنّ الترجمة لا يمكن أن تكون بمستوى النص الأصلي بسبب التحوير أو عدم دقة الترجمة وبسبب الإضافات أو الحذف الذي قد يرتكبه المترجم بحق الأصل، بل يرى أن المثلَ الشائع
(traduttore… tradittore/المترجمُ.. أيّها الخائن) باتَ قولاً مستهلكاً، تلوكه الألسُنُ: مَن يعرِف، ومن يَهرِف كأنه تهمةٌ، أو سُبّة.

إبداع فوق إبداع
*نستوضحه: إذاً هل الترجمةُ هي إبداعٌ فوقَ إبداع؟
يجيبنا: دعْني أوضِّح ما أقوله عادة. إنّ الترجمة نوعان: ترجمةٌ مشتقّة من الفعل الرباعي (تَرْجَمَ)، أي نَقَل من لغة إلى لغة أُخرى، والثانية من الفعل الثلاثي (رَجَمَ)، وتحديداً بمعنى: (الرجْم بالغيب).
النوع الأول، هو الترجمة بمعرفة وحبّ، بأمانة ومسؤولية، بصبرٍ وإتقان. هنا ترتقي الترجمة درجاتٍ إلى أن تتجسّد أحياناً موهبةً تضاهي الإبداع. طبعاً، يسبق ذلك كلَّه معرفةٌ جيِّدةٌ باللغتَين والثقافتَين: المنقولِ عنهما والمنقولِ إليهما. معيار جودة الترجمة بعد إنجازها ليس الحَرْفيّة، بل الفهم الصحيح، وحسْنُ الأداء اللغوي: التمكّن من الصياغة وسلاسة اللغة.
مَن يندرج في خانة هذا النوع من الترجمة التي تطمح إلى مضاهاة الأصل لا تنطبق عليه صفة المترجم الخائن، إلّا إذا طالبناه بترجمة حرْفية هي أسوأ من الخيانة وأشدُّ أذى. وعليه، ربّما لا يصحّ وصفُ المترجم بالخائن، ما دام ليس حرفياً، إلّا مثلما يصحّ وصفُ الشاعر بأنه كذّاب، وخياله الشِعْريّ بأنه كذِبٌ لأنه يخرج على المألوف المطروق من الكلام والتفكير والتعبير.
للنوع الثاني أسبابُه الكثيرة، نكتفي بذكر بعضٍ منها:
أوّلُها، ضعف معرفة المترجم بإحدى اللغتَين أو بكلتَيهما: لغة الأصل ولغة الهدف المستقبلَة. والثاني، العِيّ (في القاموس: العَجْزُ عن التعبير اللفظيِّ بما يفيد المعنى المقصود) وضعفُ الذائقة الجمالية، وضحالة الثقافة عموماً. وذلك ما ينتج عنه المكابرة، والكسل واللامبالاة، ثم الركاكة، والتعقيد، وسوء الفهم وانعدام المنطق أحياناً. هنا تكون الخيانة في أظهر تجلياتها!
هناك ترجمات من مختلف اللغات الأجنبية، وليس من الروسية وحدَها، يستطيع القارئ أن يكتشف ركاكتها وتناقض الأحداث والأفكار فيها من دون الحاجة إلى معرفة لغتها الأجنبية… والسبب الثالث، الترجمة بدافعِ الرِّبْح، والشهرةِ الزائفة/”البَرْوَظة” (جماعة: الثقافة/الترجمة كمهنة، كبِزْنِس).

لغة العمالقة
*أنتَ تترجم عن اللغة الروسية.. حبذا لو تخبرنا عن عظمة لغة كتب فيها عمالقة الأدب الروسي…وكيف تستطيع مقاربة هذه اللغة، بمعنى هل محبة اللغة التي يترجم منها المترجم وانغماسُه الوجداني فيها هي من لزوميات عمله؟
لم تنقطع علاقتي باللغة الروسية، كلاماً وقراءة وكتابة وترجمة وتدريساً، بعد انتهاء بعثتي الأولى إلى موسكو لدراسة اللغة الروسية (1968-1974) وحتى اليوم. لقد أمضيت في روسيا، السوفييتية ثمّ الاتحادية، ما مجموعه عشرين سنة، على ثلاث دُفعات. وهكذا، فاللغة الروسية وثقافتها جزءٌ أساسيّ من تكويني الثقافيّ والإنسانيّ جُملةً. إنها لغة تسكنني وينبض بها القلب! لقد تطوّرت وترسّخت معرفتي بالروسية عملياً، أي خارج المؤسسة التعليمية، عبر الترجمة والقراءة الاختيارية الحرَّة بعد الدراسة الجامعية. وفي فترة دراستي لنيل شهادة الدكتوراه كانت لغتي الروسية تؤهِّلني لكسب معرفة حقيقية ناضجة بالأدب الروسي وبما لم يتحْ لي من قبلُ أن أقرأه من أعمال عمالقته الكبار، بوشكِن وليرمونتوف، غوغَل وبيلينسكي، تورغينِف وسلطيكوف شِدرين، تولستوي ودوستويِفسكي، أوستروفسكي وتشيخوف، بل ولاكتشاف كوكبة من الأدباء الآخرين الأحدث عهداً. وعلى أعمال هؤلاء انصبَّ اهتمامي كمترجِم… كما أن سنوات من تدريسي اللغةَ والأدبَ الروسيين كانت لي فرصة ثمينة لمزيد من التبصر في تفاصيل بنية اللغة الروسية والكلمة وتنوع دلالاتها في التراكيب والسياق، ولاسيّما عبر مقارنتها باللغة العربية نحْواً وتركيباً واشتقاقاً وأساليبَ تعبير. على أن سبعَ سنوات من التدريس في جامعة طرابلس/ ليبيا أثمرت ترجماتٍ مضنيةً وغالية على القلب لأعمالٍ من ميخائيل بولغاكوف، ونَديِجدا طيفّي، وغيورغي غاتشِف، وفلاديمِر نَبوكوف الذي طبع أسلوبي الأدبي ببصمات لا تمّحي.

الترجمة والصحافة
* عمِلتَ في الصحافة سنوات طويلة، كيف أثر ذلك على عملك كمترجم… هل أتاح لك إمكانية تجويد ترجماتك أم قلل من حرية المترجم في الإفاضة؟
أستطيعُ القولَ جازماً إنّ خبرتي الأدبية والترجمية هي التي كان لها تأثير إيجابي كبير على عملي في الصحافة، ولاسيّما في الصحافة الإذاعية والتلفزيونية فترة إقامتي الثالثة في موسكو (1995-2003). حيث يكون تكثيف العبارة ودقّتها في أداء المعنى بوضوح شرطاً أساسياً يتطلّبه المستمع والمشاهد من جهة، ويمليه الزمن المحسوب بالثانية في العمل الصحفي، فلا يسمح بالإطالة والحشو، من جهة أخرى. غير أنّ للعمل في الصحافة عموماً، وفي الصحافة المكتوبة على وجه الخصوص، ميزاتٍ وفوائدَ كثيرة لا يُستهان بها إطلاقاً! فهو يضعك في خضمِّ حياة العالم اليومية بجديدها ومتغيِّراتها الدراماتيكية الموّارة، ويدفعك دفعاً إلى توسيع معارفك التاريخية والسياسية.. إلخ. كي تستطيع أن تتبيّن أسبابَ ومقدِّمات ما يجري، وتخمِّنَ مؤدّاه.
إقامتي الثالثة في موسكو تزامنت مع متغيِّرات عالمية مفصلية، لاتزال أثار تردّداتها الزلزالية في صعود وازدياد: تفكّك الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية، الحرب الشيشانية، الحرب الطويلة على العراق، انهيار الاتحاد اليوغوسلافي/ حروب البلقان، تحرير جنوب لبنان، الانتفاضة الثانية في فلسطين المحتلّة… في تلك السنوات كنت أحد مؤسسي أوّل مجلة ثقافية تصدر باللغة العربية في موسكو، مجلة “رمال” (1998-2003) غير الدورية وغير الربحية، صدر منها ثمانية أعداد، ثم توقّفت بعد عودتي إلى سورية 2003. وكانت تجربة “رمال” وثيقة الصلة بالترجمة، طبعاً. كما كان لها الفضل المباشر الأكبر في وضعي كتابَ “روسيا من الداخل” الذي نشرتُه في دار “الحصَاد” بدمشق عام 2005.

توجهات اليسار
*عطفاً على السؤال الثالث إذاً… هل أثرت مقارباتك للفكر والأدب الروسي على تكوينك الشخصي ووعيك السياسي وبالتالي جعلك أقرب إلى (الخط اليساري) إذا ما استخدمنا مصطلحات الصراع بين الأيديولوجيتين الرأسمالية والاشتراكية؟
كانت بوادر توجّهاتي اليسارية المبكِّرة – وظلّت حتى اليوم – ثقافيةً، لا حزبية، آخذةً بالتبلور قبل إيفادي في بعثة دراسية إلى الاتحاد السوفييتي عام 1968. بل إن تلك البوادر كانت الموجِّه الأهمّ في اختياري الدراسةَ في روسيا السوفيتية تحديداً. إذ كان إعلان المسابقة في مديرية البعثات يومها يعرض دراسة واحدة من عدة لغات أجنبية: الفرنسية، الألمانية، الإسبانية، ثمّ الروسية التي اخترتها، وأنا لا أعرف أيّ شيء عن اللغة الروسية ولا عن الأدب الروسي إطلاقاً. كنت أعرف أن ثورة 1917 الشيوعية قامت في روسيا. وكنت أقرأ عنها ما تقع عليه يدي. إلّا أنّ القراءة وحدها لا تُشبع الفضول. فأن تعيش تجربة بناء الاشتراكية وتكون شاهداً عليها من الداخل هو الفيصل والحكَم. وهكذا سرعان ما سقطت كل المقارنات والاعتبارات و”الإغراءات” الأخرى، ولم تعد لها قيمة ولا وزن في نظري.
لا شك في أن دراسة الفكر والتاريخ والأدب الروسي وتلك المعايشة أثّرت إيجابياً وبقوّة في تكويني الثقافي، وإنضاج وعييِ السياسي، نوّرت طريقي ورسّخت مواقفي اليسارية، من غير انتماء حزبي، إزاء العناوين العريضة (الاشتراكية، والعدالة الاجتماعية، ومحاربة الوجود الاستعماري والاستيطاني الرديف…) طريقاً للتحرر ووحدة الأمة العربية.

ثلاثي الأبعاد
* ثمة مقولة بما معناه ( إنّ لكل إنسان ثلاث شخصيات؛ تلك التي يعرفها، وتلك التي هو عليها فعلاً، وتلك التي يظن بأنها له)… كيف يعرِف ويعرّف نوفل نيوف نفسه بعد هذه السنين كلها؟
** أوصلتني تأملاتي الذاتية الطويلة والمضنية، ولاسيّما في سنوات غربتي الأخيرة هذه، إلى يقينٍ بأن شخصية الإنسان تتألف من طبقات أكثر عدداً وتعقيداً وتنوّعاً ممّا ذكرتَ. يكفي أن نذكِّر بأن قدماء فلاسفة الإغريق رأوا في مقولة “اعرفْ نفسك” أساسَ الفلسفة. فيما قال الفيلسوف الألماني هيغل في مؤلَّفه الضخم عن “علْم الجمال” إنّ النفس البشرية مثلُ جبل الأولِمب، فيها جميعُ آلهة أساطير اليونان. فكيف لي أن أخرج من هذه المتاهة بتعرِيف لي؟
أقول ببساطة وإيجاز: إنني، في الصميم، متناقضٌ، مائجٌ، أحبُ الناسَ ولا أحبّني! هذا لا يعني البتّة أن لا ثوابتَ لي، أو أني لا أتمسّك بقيم وأفكار من دونها لا تساوي الحياة أيَّ شيء، ولا تستحقّ أن تُعاش.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار