محمود حامد… الشاعر الفلسطيني الباقي في خطوته الأولى حتى النهاية
تشرين- لبنى شاكر:
عشر سنواتٍ مرّت على لقائي مع محمود حامد 1941 – 2024، يومها كانت كلماته أشبه بعهودٍ ومواثيق، مبدؤها الأرض والقصيدة، حتى إنه رغم مشواره الطويل في الكتابة، لطالما وصف نفسه بالشاعر الفلسطيني في خطوته الأولى، يتحدث عن فلسطين في يومياته وقصائده وطموحاته، مُؤمناً أن العودة أقرب من أي يومٍ مضى، إلى أن كانت قصيدته الأخيرة، قبل ساعاتٍ من رحيله أمس “حاضرةً في الغياب”:
ما كانَ يمكنُ
أن يَمُرَّ العُمرُ دونَكِ؛
أو أعيشَكِ … ذلكَ المجهولا
مِن بعدِ أن:
حفرتكِ ذاكرتي بروحي؛
وتسرَّبت أحلامُكِ الخضراءَ في صدري
كطيرٍ أطلقتهُ الرّيحُ:
في أعلى سَماواتِ التَّمَنّي؛ بعدما
نزفَ الحياةَ، على الأسى مغلولا
والآنَ؛ أبصِرُ في الغيابِ؛ صداكِ
طيفاً نافراً من غربةِ الكلماتِ عنّي؛
عاتباً ….. معلولا..
رحل حامد من دون أن ينكث بوعدٍ قطعه للسيدة أم كلثوم بأن لا يُعطي قصيدة طائر الشوق لأحد
الكتابة لفلسطين
عاش حامد النكبة في مراحلها الأولى، ومع إنه غادر فلسطين وعمره خمس سنوات، لكنه يتذكر تفاصيل الغربة في بداياتها، ومن ثم بدأت قصائده من مخيم خان الشيح، وكانت تجربته الشعرية تتطور بالتوازي مع ما يستجد في الساحة الفلسطينية.
وفي الحديث عن ألق القضية الذي لم يبهت يوماً، كثيراً ما كان يستحضر زيارته للجولان في أيار 2011، يومها كان الجيل الفلسطيني الشاب يرمي نفسه على الأسلاك ليعبر الكبار، يقول (دخلت إلى مجدل شمس، تجربة لن أنساها أبداً، طلبت مني سيدتان، إحداهما تحمل طفلاً معوقاً والأخرى على يدها طفل عمره أشهر، أن أساعدهما في السير، قالتا لي: نريد أن نموت في هذه الأرض، إذاً القضية لن تموت طالما أن الجيل الشاب ما زال يعيشها، ولن ينسى أبداً).
المُختلف شعرياً
يبدأ المُختلف مع حامد، قبل أن يكتب القصيدة، فهو يعاني، وربما تمر سنة وأكثر لا يتمكن من الكتابة فيها، بانتظار الإيحاء، الذي يأتي دفعة واحدة، فتنصب القصيدة كالمطر على الأرض اليباس، ويتحول لونها وطعمها ورائحتها، إلى نكهةٍ أخرى، وقد انعكست تلك المعاناة على إنتاجه الشعري ودواوينه، في وقت أصدر فيه زملاؤه عدداً أكبر من الدواوين، لكن ما قدمه ترك أثراً عربياً وعالمياً، حيث تُرجمت قصائده للتركية والإسبانية والصينية وغيرها.
بدأت قصائد حامد من مخيم خان الشيح، وكانت تجربته الشعرية تتطور بالتوازي مع ما يستجد في الساحة الفلسطينية
أما في الكتابة، فهو يبحث عن المُختلف جداً، والذي ترك اسمه على الساحة، واستطاع أن يقدم برأي الكتّاب والنقاد تجربة جيدة، في قصائد تركت صدى جميلاً لدى الجمهور، وهذا ما جعله يبكي أمام القراء الذين يتركون وساماً على جبينه بكلماتهم عن قصائده، وفي كل مرة لا ينسى التأكيد أنه مازال في أول الطريق، علماً أن في رصيده 13 ديواناً منها (موت على ضفاف المطر، أغانٍ على شفاه الصنوبر، افتتاحيات الدم الفلسطيني، شهقة الأرجوان، مسافة وردة تكفي، بيسان، الريح والزيتون، زيزفون الأرض، رعشة اسمها فلسطين).
كتابات أخرى
في كتابته للأطفال، ينطلق حامد من ذكرياته مع أطفال المخيم، وأغانيهم وثرثراتهم، ومن علاقته مع أحفاده وحبه لهم، وفي ديوانيه (لمن تغني البلابل، وطفولة المجد والزيتون)، يُقدّم لهم شيئاً من الهم الفلسطيني، وهو الحاصل على جائزة آل نهيان لشعر الأطفال.
كتب في النقد، مُستنداً إلى أنّ الناقد للشاعر، يجب أن يكون شاعراً حقيقياً وليس كاتباً عابراً، يعيش مأساة الشاعر الآخر وما وراء القصيدة، وفي نقده استطاع كما يقول الدخول إلى أعماق الشعراء وفهمهم. وله أيضاً مقالات سياسية واجتماعية، تتعلق بالقضية الفلسطينية وغيرها من القضايا المهمة، حاول من خلالها أن يوصل للآخر في بلدان أوروبا أفكاراً صحيحة عن فلسطين، وأنها ليست أرضاً بلا شعب، ليكون الفلسطينيون شعباً بلا أرض، كما كانت تروج الدعاية الإسرائيلية.
أيضاً، عمل في الإذاعة والتلفزيون في عدة دول عربية، وأعدّ موسوعة عن شعراء فلسطين، تناولت التجربة الحياتية والشعرية بشكل مفصل لحوالي 70 شاعراً فلسطينياً، وهو عضو في اتحاد الكتّاب العرب.
حاول أن يوصل للآخر في بلدان أوروبا أفكاراً صحيحة عن فلسطين، وأنها ليست أرضاً بلا شعب، ليكون الفلسطينيون شعباً بلا أرض
نقاطٌ في التجربة الطويلة
قُدِّر لـحامد أن يلتقي السيدة أم كلثوم، حين كان في العشرين من عمره، حكت له على مدار ثلاثة أيام، وهي تبكي، الكثير عن حياتها، و زواجها، وعن المنديل الذي كانت تحمله في يدها، فهي كانت تعاني مرضاً في حنجرتها، أجبرها على شم مواد كيماوية وضعت في المنديل، حتى لا تتعرض لنزيف في الحنجرة.
قدّم لها الشاعر قصيدة (طائر الشوق)، لكنها توفيت قبل أن تتمكن من غنائها، ورحل من دون أن ينكث بوعد قطعه لها بأن لا يُعطي القصيدة لأحد، ويقول فيها:
حلمت بك الأيام قبل المولد
يا طائر الشوق المسافر في غد
عمري تفتح في لقاك حدائقا
والعطر فاح غداة نمت على يدي
وصباه كالنيل اشتياق للهوى
عاش الحياة وليس غيرك يقتدي
عد يا حبيبي إنّ عمري ليلة
كنت الهدى فيها وكنت المهتدي
كذلك كتب حامد كلمات العرض المسرحي الغنائي (إليك أعود)، والذي قُدِّم عام 2007، ألحان الفنان خالد الشيخ، وإخراج عامر الخفش، بمشاركة مجموعة من الفنانين العرب منهم (عبد الرحمن أبو القاسم، ولطفي بوشناق)، ومما كتب فيه:
وخيرٌ أن تمر بك الطلول
لكي تُحيي
وأن يلقاك بعد غيابك الوطن
إذا أنساك طول الغربة الأحباب،
أو أضناك عبر زمانك الزمن!!!
ورغم مشوار غني، في الأدب والشعر، اختار حامد، الابتعاد عن الإعلام، وهو ما برره بالاستهلاك الذي يسود الحالة الإعلامية عموماً، فالشاعر يُقدّم كأحد المُهمشين أو المجهولين، ولا يتذكره البعض إلّا في المناسبات..