العنف اللغوي وعسكرة الأدب
تشرين- د.رحيم هادي الشمخي:
لقد ألقى العنف الأيديولوجي وعسكرة المجتمع بثقليهما على كل ما هو جمالي وإبداعي، فصارت المتضادات محببة للشعراء، ومما لاشكّ فيه أن هذا الكم الهائل من “القنابل اللغوية” التي تكاد أن تنفجر على المنصات أو في صفحات الكتب، كانت توزع بانتظام على المناهج الدراسية، ليصبح لدينا شعب لا يرغب أطفاله بأي ألعاب أو دمى سوى الألعاب النارية.
هل هناك تحبيب للعنف وتسخير جماليات اللغة لخدمة هذا العنف الأدبي، فصارت الحرب محببة جداً؟ كيف لا والشاعر المتنبي يشتغل جوار المعنى فيصيب كبده، فهو في ذروة المعركة لا ينسى قدرته الهائلة على تطويع النحو لتوظيفه في صورة شعرية عظيمة في جمالها مهولة في تحريضها لسيف الدولة على الحرب:
إذا كان ما تنويه فعلاً مضارعاً
مضى قبل أن تلقي عليه الجوازم
فلقد صار كل ما ينويه (سيف الدولة) مفروغاً منه كأنه حدث قبل أن ينطق به فهو ماض حرمه المتنبي من الجزم كي لا يظل مضارعاً، ويصل ذروته في تحميل القتل في قوله:
نثرتهم فوق الأحيدب كله
كما نُثرت فوق العروس الدراهمُ
إنها واحدة من أروع الصور الشعرية، لكنها في الوقت نفسه تمثل أعلى درجات تسخير الجمال وجعله أداة لتسويق العنف وتحبيبه والترويج له، حتى نصل إلى عصرنا هذا، فنجد له أرضاً خصبة، سرعان ما يزهر فيها، ولعل أقرب تجميل للعنف وترغيب بعسكرة القصيدة ما قاله الشاعر الجواهري:
وطن تشيده الجماجم والدم
تتهدم الدنيا ولا يتهدم
هكذا صارت الماكينة الثقافية توظف الجمال لخدمة الموت وهو نسق قديم لم يتخلص منه العرب إلى جماليات الحياة والتغني بها.. وهكذا نجد أن دخول الشاعر للمعركة ببدلته الأدبية كما يدّعي المنظّرون للقصيدة المقاتلة، لن يكون سهلاً من دون ارتباك الاستعارات وتشويه الدلالات واغتصاب اللغة، ومن بين اغتصاب اللغة دخول شعراء جدد على منصات الشعر لا يعرفون غير عسكرة الشعر بعيداً عن الجمال الشعري والطبيعة الشعرية، وظهور مجاميع شعرية تشي بالرعب وتوصد باب التفاعل، وعلى كل حال فللشعر جماليته ورومانسيته بعيداً عن الضوضاء، ولكن لشعر الحرب حماسته وفخره في ميدان الوغى، إنما يجب ألا نشوه هذه الجمالية بالعنف ونخلق من خلال ذلك لغة بديلة في الشعر العربي، ولنا أن نذكر أن العرب كانوا في شعرهم القديم يقفون على الأطلال وقد فعل ذلك محمد مهدي الجواهري في واحدة من أروع قصائده:
قِفْ بالمعَرَّةِ وامسَحْ خَدَّها التَّرِبا
واستَوحِ مَنْ طَوَّقَ الدُّنيا بما وَهَبا