سباقُ حربٍ وتنميةٍ
لم تعدِ الجغرافيا ذاتَ اعتبارٍ أساسٍ في إحداثياتِ الحربِ الجديدةِ ذاتِ الاصطفافاتِ شبه العالمية، كما لم تعد الحروب حروباً تقليدية بالمطلق مقتصرة على الطابع العسكري، بل متعددة الأوجه ومفتوحة الجبهات بوقائع وآفاق غير مسبوقة في التاريخ القديم ولا الجديد..
فما يشهده العالم خلال العامين الأخيرين هو حروب شاملة بكل معاني الشمول، من المواجة العسكرية المباشرة إلى الاستهداف السيبراني إلى الإعلامي، بكل مايجري تحميله على متن الميديا الجديدة من ضروب التشويه والتجويف ومحاولات نسف ونخر منظومات القيم والبنى الاجتماعية وخصوصيات بلدان وأقاليم بأكملها، كانت تعتد دوماً بتماسكها وغنى تراثها وأنساقها القِيَمية كأهم مقومات بقائها..
وصولاً إلى الحرب الاقتصادية ذات النصيب الأكبر من الأهداف القريبة والبعيدة في كواليس الصراع المحتدم عالمياً.. فالحرب بتطوراتها المتسارعة هي تماماً حرب أقطاب ليس من اليسير الوقوف على الحياد أمام فصولها اليومية، بما أن لاحياديةَ ولا نأيَ بالنفس ممكنان عندما تكون الاعتبارت اعتبارات مصير .. أي حياة أو موت.
أمام هذه التحولات الدراماتيكية والخطيرة في قواعد الصراع، والحقائق الجديدة التي تفرض نفسها بقسوة في مجمل مسارات التعاطي السياسي والعسكري والاقتصادي وحتى الثقافي، يمسي فهمُ المجريات يسيراً والتنبؤ بالتطورات “لعبة” لم تعد مخصصة للأذكياء فقط..
فأن تستهدف “إسرائيل” مصالح إيرانية في سورية..هو جزء من حالة اشتباك قطبية واسعة الطيف، وكذلك أن يجري استهداف الصين عبر اختراق تكتل اقتصادي ناشيء في إقليم كالشرق الأوسط، ومثله استهداف سورية بتأليب وخلط للأوراق في تركيا مثلاً أو دول أخرى مجاورة، أو عبر نسف بنية علاقاتها الاقتصادية الراسخة والقديمة مع جوارها، وإبطال مفعول كل مقومات التعاون التي يمكن أن تكون جزءاً من تكتل اقتصادي إقليمي.. هو فصل من فصول حرب كبرى مستعرة في هذا العالم اليوم.
هذه ليست أوهاماً ولا اجتهادات شخصية، بل حقائق يسهل معها تفسير كل مايجري من تطورات، وفهم متوالية الاستهداف “الإسرائيلي” للأراضي السورية، بما أن سورية “الجيوسياسية” من أهم المفاصل أو الحلقات في المشهد القطبي الجديد، والمطلوب بإلحاح ألا تهدأ هذه البقعة الصغيرة مساحة والكبيرة استراتيجياً وبالغة الحساسية في تكنيك وميكانيك تشكلات المشهد العالمي الجديد.
أليست الحرب على غزة حرباً تتعدى مجرد الحرب على الفلسطينيين..؟ ألم يتفق معظم قارئي الأفق السياسي والاقتصادي على أن لغزة حيثيتها الدقيقة في مشروع اقتصادي عملاق في مواجهة آخر ناشئ عملاق أيضاً..؟
لانظن أنه تشاؤم بل واقعية، القول إن الحرب القطبية لن تهدأ، ومنطقة الشرق الأوسط هي المسرح الأرحب لها، لكنها بكل تأكيد ليست المسرح الوحيد..
فثمة محاولات عنيدة لفرض ارتسامات وخرائط جديدة للإقليم بما فيه منطقة الخليج.
ليبقى السؤال هل نستسلم جميعاً لمساعي تعطيل عجلة التنمية وصناعة الشلل الاقتصادي والتنموي.. هل علينا انتظار سلام مفقود “خرج ولم يعد”، أم علينا أن نعاود الإقلاع وفق الإمكانات الذاتية أولاً والإقليمية ثانياً على أساس موضوعي وواقعي؟ بما أن “فن الممكن” لم يعد حكمة مقتصرة على السياسة.. بل للاقتصاد أيضاً وكل البنى المجتمعية التي تشكل بمجملها مفهوم الدولة الوطنية!