على سيرة «إعادةِ الهَيكلةِ»..
لم يعد أولويةً الاستمرارُ بالجدل حولَ هويةِ الاقتصادِ في بلدٍ استنزفَت إمكاناته الحربُ، خصوصاً وأن الذهنيةَ الوصفيةَ لا التحليليةَ تستحكمُ بأغلبية هواة مثل هذا الجدل المزمن.. ونذكر جميعاً المآخذَ الكثيفةَ التي كان يسوقها المنظرون، على الاقتصاد المُخطط بكل ماينطوي عليه من كفايةٍ للفرد والأسرة، كما نذكر مشهد الصراخ في وجه اقتصاد السوق الاجتماعي بعد العام ٢٠٠٥، واليوم مازال بيننا من يهرشونَ رؤوسهم لاستنتاج مسمى ما لاقتصاد البلد، كمن ينشغل بدلالات وجمالية لون سيارة الإسعاف التي ستقله إلى المشفى..
اليوم نحن بحاجةٍ ماسّةٍ إلى رؤى جديدة مبتكرة، تجترحُ مخارجَ آمنةً من دواماتٍ متسارعةٍ أنتجتها سنواتٌ صعبةٌ وقاهرة، وليكنِ الجميعُ على يقين بأن ثمةَ من ينصتون ويوثقون كل فكرة بناءة هادفة، بعيدة عن مسارح التصيد والاستعراض.
حالياً.. ثمة الكثير من الملفات الحساسة المتعلقة بإعادة هيكلة البنى الاقتصادية، مطروحةً على طاولات حوار هادئ، وهي بحاجة إلى فكرِ ورؤيةِ كلّ ذي فكرٍ ورؤية حقيقية، ولانظن أننا نفتقر لأصحاب الفكر بيننا، إنْ في الأوساط التنفيذية أو الأكاديمية وحتى الإعلامية.
وتؤكد سلسلة التشريعات الأخيرة بتماهيها مع ماتمّ تداوله من أفكار خلاقة، أنّ الخيارات الصحيحة، ولو كانت جراحيةً، تفرض نفسها في زمن لابدّ فيه من جراحاتٍ لازمةٍ قبيل التعافي التام.
فثمة ورشة “إعادة هندسة” بكل معنى الكلمة، من الأنموذج المطلوب – تقليدياً – بإلحاحٍ بعد الأزمات، بدأت في سورية وستستغرق بمقدماتها وتطبيقاتها زمناً ليس بالقصير، لابدّ من تفهمها أولاً، وتسويقها بطريقة صحيحة ثانياً، وتوخّي قدرٍ عالٍ من المسؤولية في إطلاق وجهات النظر ثالثاً، أما رابعاً فهو المرونة وتقبّل الرأي الآخر وجرأة الطرح المرتكزة على زاوية وقوف ورؤيا صحيحة.. فالقوالب القديمة لم تعد تنفع، و”الشعارات” الصاخبة لاتبني مؤسسات واقتصاداً، بل دعونا نعترف أن بعضها بات هداماً لأنه “متراس” لمن يصرون، مصلحياً لاعقائدياً، على تكريس الخلل ومناهضة التغيير.
الآن ثمة تركيزٌ للحوار على إعادة ترتيب البنى الاقتصادية الممأسسة والهياكل الكبيرة، وهذا ضروري وله ماله من أهمية استراتيجية، لكن ثمة مكوناتٌ صغيرةٌ تنهض بأعباء اقتصادية واجتماعية كبيرة، تستحق إيلاءها نصيبها من تركيز العناية التنفيذية ومن النقاش والأفكار، لأنها تضمن مشاركات ومبادرات أفقية واسعة الطيف، وتتكفل بكسر عقدة بطالة وسائل الإنتاج التي باتت ظاهرة مقلقة في بلدنا، وتتيح استثمار الخبرات التراكمية والمهارات المعرفية لطيف واسع من الكوادر المؤهلة والمعطلة..
هذا ما نظنه أكثرَ أهميةً من التفاصيل التنظيمية لقطاع التجارة والصناعة والقطاع المالي والنقدي، لأن في هذه القطاعات من هم قادرون على رفع الصوت واستقطاب الانتباه والعناية، وإثارة الجدل حول ما يرعى مصالحهم، لكن لا أصواتَ تُسمعُ من مضمار “بزنس الفقراء” إن لم تلتفت الحكومة نحوهم، ومعها المفكرون الأكاديميون والإعلام أيضاً، وليطمئن الجميع أن هؤلاء لايعنيهم كثيراً إن كانوا سيعملون في سياق اقتصاد اشتراكي مخطط أم رأسمالي حُرّ أم هجين، المهم أن يخرجوا من عباءة الفقر والبطالة، وسيكونون خير داعمٍ ومؤثرٍ في الاقتصاد الكلي والتنمية عموماً.