«كنوزٌ» تحتَ الطّلب
تتزاحمُ رؤى إصلاحِ اقتصادِنا المُتعبِ، إلى حدٍّ يشبهُ بيعَ النّصائحِ على طريقة “كانت النصيحة بجمل”..
حتى غرف صناعاتِ القرارِ التنفيذيّ تحوّلت أحياناً إلى مجالسِ عصفٍ ذهنيّ، وهذا طبيعيٌّ ربما جراءَ تزاحُمِ الاستحقاقاتِ وإلحاحها، فكلّ مايُقال صحيحٌ، لكن بين الصحيحِ والأصح انحرافاتٌ وتبايناتٌ تبدأ بطاولة حوارٍ وتنتهي بمتاهاتٍ معقدةٍ، كتعقيدات الظرف الذي أوصلتنا إليه سنوات الحرب والحصار وتواليها من متوالية الأزمات المتسارعة.
المُثيرُ للهواجسِ في مثل هذه المناخاتِ المتوترةِ، ليس مجردَ تباينِ الرؤى، بل تضاربُها إلى درجةِ التنازع، تنازعُ حضورٍ وأحياناً مصالح، ثم جولاتُ “تنمّرٍ” وانتقادٍ .. بل وتسفيهُ مابعدَ اتخاذِ القرار.. وهذا أقربُ إلى الفوضى، والفوضى لايمكن أن تُفضي إلى حلولٍ مستدامةٍ، بل ارتجاليةٌ بما أن التوافقاتِ غائبةٌ، ومن يصحُ من النوم أولاً يحتل المساحة الأرحبَ من فضاء التحليلِ والتنظيرِ عبر وسائل الميديا الجديدة.
لا بدَّ من حسمٍ إذاً.. حسمُ الأولويات في البداية، ثم بلورةُ فريقٍ أو فِرقِ بحثٍ ودراسةٍ ممنهجةٍ واحترافيةٍ.. وهذا يقودنا إلى حتميةِ الاستعانةِ بمراكز أبحاثٍ من المفترض أنها لصيقةٌ بغرفِ صناعةِ القرار، مراكزُ نظنُّ أنها الحلقةُ المفقودةُ لدينا اليومَ، وفقدانُها حَوّلَ أصحاب القرار – قسراً – إلى باحثين أولاً ثم صانعي قرارٍ ثانياً، وبما أنهم لايمتلكونَ كفاءةَ وعمقَ الباحثِ المتخصص، تكون القرارات من وحي نتائجِ “البحث الارتجالي”، وتظهرُ العيوبُ عُرضةً للتهويل والتضخيم ..
لانتحدث هنا عن القضايا الاستراتيجية الكبرى فحسب، بل عن مسائلَ تفصيليةٍ تتراكمُ لتكون استراتيجيةَ الأثرِ والتأثير..
الفِرق المتخصصةُ و”طباخو” القرار، باتت شرطاً لازماً للنجاح في مواجهة لوائح المطالب المتكررة والمتزايدة.
فنحنُ أمام استحقاقاتٍ صعبةٍ بالفعل لاتقبلُ التأجيلَ كثيراً، ففي تقاليد ميكانيك إدارة معظمِ الملفاتِ التنمويةِ الحسّاسة ما ينطوي على استنزافٍ خطيرٍ للموارد، أو على ضياع وفوات فرصٍ ثمينةٍ، في بلدٍ أنهكَت اقتصادَهُ سنواتُ الاستهدافِ والحصار.. بالتدمير الممنهج والمباشر أولاً، ثم بتعطيل ديناميكية إدارة وتطوير الموارد و المواكبة المَرنة للتطورات والتغيرات في هذا العالم ثانياً، وبات أمام حتميةِ إعادةِ هيكلةِ وهندسة معظم قطاعاته وبناه وسياساته وتشريعاته، وهذه مهمةٌ صعبةٌ لايمكن أن يتولاها الفريق التنفيذيُّ دراسةً وتخطيطاً وتنفيذاً، لأن الرجل التنفيذي ليس ولايمكن أن يكون “سوبر مان” لا في بلدنا ولا في أي بلدٍ في هذا العالم.
الفنيونَ والمتخصصونَ ومراكزُ الأبحاث هم من يدرس ويبلور سيناريوهات القرارات، والسلطةُ التنفيذيةُ تُفاضلُ بين الخياراتِ المعروضةِ وتتخذ القرار.. هذا هو دورها الاستراتيجيّ.
أما الخبراءُ المُعَوّلُ عليهم فهم بالتأكيد ليسوا أولئك الذين أضاعوا رُشدَ البلادِ والعباد تنظيراً واستعراضاً من حيث يتاح لهم منبرٌ – أيّ منبرٍ – بل من راكموا معارفَ ومهاراتٍ ثمينةٍ على مرّ تجاربهم الطويلة، وأغلبهم ليسوا في الواجهة وربما لايحبّون الظهور.. متقاعدون أقصاهم ” تشريع الوظيفة العامة” وحجبَ ما يكنزونه من خبراتٍ ومعارف، رغم أن لا تشريعَ ولا عُرفَ ولا حكمة.. ولا علم الفيزياء ولا بيولوجيا البشر تقضي بتقاعد العقل مع خروج صاحبه على المعاش، بل على العكس.
لدينا خبراءُ كثيرونَ بالتجربة والممارسة في مختلف القطاعات، وآخرون بالاكتساب الأكاديمي، و مثلهم مجربون في قطاع الأعمال الوطني لا الطفيلي، يمكن أن يكونوا قوامَ فرقٍ كثيرةٍ للبحث والدراسة، تتصدى لكل الملفات الصعبة وفق توزيعٍ قطاعيٍّ أو عامٍ شامل.
البلادُ بحاجة إلى خبراتِ الجميع وفيها ما يكفيها من الخبرات، كما هي غنيةٌ بمواردها، لكن السرَّ والخللَ يكمنان في إدارةِ هذه الخبرات، كما هو في إدارة الموارد، ونجزم بأنّ الاستثمارَ السليمَ للخبرات سيفضي إلى استثمارٍ أمثلَ للموارد.