عصر الاكتئاب والقلق
ترى بماذا كان يشعر المتنبي ولسان حاله يقول: ذو العقلِ يشقى في النعيم بعقله/ وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم؟ ” ..
ألم يكن في عصره فرصة لعيش حياة هانئة وقادرة على استهلاك المتع والمسرّات لهذا الكمّ من البشر كعصرنا الحالي! .. حيث التقدم التكنولوجي والمعرفي في مجالات متنوعة خلقت فرصاً جديدة للتغلب على صعوبات كانت مميتة أو بالأقل مُدمرة لحقب طويلة سابقة.
بعد مئات من السنوات يغرد المتنبي مجدداً عن حالة القلق والاكتئاب التي تعاني منها من حناجر ملايين الأصوات على مواقع الشبكة، فهذا العصر الأكثر رخاءً ووفرةً هو أيضاً عصر الاكتئاب والقلق، والدليل أن عدد المصابين بمرض الاكتئاب وحده بحسب منظمة الصحة العالمية في عام 2023 وصل إلى 800 مليون شخص حول العالم ويبلغ عدد المصابين بالقلق أكثر من ضِعف هذا الرقم.
وكان ثمة اعتقاد بأن الاكتئاب والقلق هما بعض أعراض المثقف الذكي فالمثقف أكثرُ الناس عرضةً للاكتئاب النفسيّ وذلك بالتناوب مع نقيضه المتمثّل في النشاط والتفاؤل ومشاعرِ السعادة. يقول د. عادل صادق الأمينُ العامُّ السابق لاتحاد الأطبّاء النفسيين العرب: “إنّ المثقف المبدع يعيش تعيساً من دون أسبابٍ مباشرة كما نراه سعيداً بلا أسبابٍ واضحة. ويضيف إنّ الجهاز العصبيّ للمثقف معرَّض لتذبذبٍ انفعاليّ شديدِ الوطأة ودوريّ.”
ويُكمل صادق فيقول: إنّ الفارق بين “المثقف” والإنسان “العاديّ” هو أنّ الأخير يعيش اللحظةَ بشكلٍ مباشر، في حين يرى الأوّلُ الأشياءَ بصورةٍ بانورامية فيرى الحاضرَ على ضوء الماضي ويستشرف المستقبلَ من خلال إدراكه للماضي ومعايشته للحاضر.
وهذه النظرة “الفريدة” و الشاملة” تعقيدات الحياة والإنسان والمجتمع قد تُشكّل بحسب بعض الباحثين سبباً للاكتئاب والقلق، فهم بسبب “تفرّدهم” هذا بحاجةٍ مستمرّةٍ إلى التقدير وعدمُ نيلهم هذا التقدير يُحبطهم ويجعلهم عرضةً للاكتئاب.
ثمّ إنّ العالَمَ الجديدَ تحكمه ثقافةُ المال وثقافةُ الاستهلاك ويقلّل من الأهميّة المسبغةِ على الثقافة والمثقّفين. وهذا ما يجعل الأخيرين منعزلين وعاجزين عن استخدام ثقافتهما للتأثير في الناس من أجل إحداث التغيير الذي يريدون.
ومن ناحيةٍ أخرى فإنّ سيطرة عقليّة “المنافسة” وتفشّي الكذب والعنف والخداع يضعان المثقّف في مواجهة حقائقَ قيميّةٍ سلبيّةٍ تدفعه إلى المزيد من الإحباط.
ويبقى السؤال: هل كان المتنبي يعبر عن حالة نفسية عاشها أم إنها كانت نبؤءة لشاعر سبق عصره؟!