ولا زالت تُقاوم..

لم يشبع الاحتلال من دمهم، ولم يتعب الشعب الثّائر من مقاومته، هم يبحثون عن لحظة خضوع، وهذا بالقرائن المحفوفة مستحيل، ففي تاريخ النّضال لم نر أطفال شعب في مقدّمة التحدّي والكفاح، إلاّ في فلسط..ين الأبية، إنّ معركة استبسل فيها الأطفال، لن يهزمها احتلال فقد جيله الجديد ثقافة التّضحية.
– لم يعد الفيتو يحمي الاحتلال من قرار الإدانة فحسب، بل أصبح الفيتو يُستعمل في حماية ظهر الاحتلال، ضد قرار وقف الحرب، الغرب سقط فلسفياً وحقوقياً، لو افتحصنا قليلاً نصيحة فرويد لآنشتاين ومبلغه من علم تاريخ الحرب، أنّه لا بدّ في نهاية المطاف من استفراد قوة، لإرساء السلام، السلام في مثال فرويد، هو السلام الروماني الذي فرضته روما على مستعمراتها، لماذا لا نفهم ما يجري اليوم انطلاقاً من هذا الوعي الذي هو في الوقت نفسه توصيف لغريزة التدمير، التي ارتهن إليها التحليل النفسي والأمم المتحدة معاً.
– ما أجبن نخبة الفكر الغربي، حين يخونهم المصطلح، حين يعجزون عن تبرير هذا الاصطفاف الوقح مع محتل في ذروة حرب الإبادة، باسم الحرية والحقوق، يخضعون الشعوب، في مُفارقة تستمد قيمتها من منطق القوة وسياسة الإخضاع.
– مثقف كهابرماس أعطى مثالاً لهذا الترنح، إنّه أجبن من أن يُضحي بمصالحه داخل نسق طارد لكل من يتضامن مع غزّة اليوم، هذا لا يجعلنا نفقد الإنصاف فنزعم أنّ هبرماس لا يحتل مكانة كبيرة في المشهد الفلسفي الغربي والعربي معاً، بلى، إنّه صاحب مشروع فلسفي كبير، ونقده يعني انتهاكه لكل مشروعه، هابرماس ضدّ هابرماس، وإن كان قد جلب الذّل على مدرسة فرانكفورت التي نسب نفسه لتيارها بعد أن تفككت نهاية الحرب العالمية الثانية، صدقت نبوءة هوركيمر، فهابرماس فيما نفهم منه، لم يكن فرانكفورتياً خالصاً، لكنه أيضاً لم يكن ريشة في مهبّ الريح الفلسفية، يمكن أن ننصت جيداً لموقف نقدي ضد هابرماس بخصوص قضية من القضايا المحددة، إن كان الناقد نظيره في التّشبع والخبرة الفلسفية كما رأينا من موقف دولوز. ما يحدث في مشهدنا العربي، يدعونا للتواضع أكثر، هو أنّ الممارسة الفلسفية، لاسيما في المراحل المتأخرة ومع الهواة، هي قاصرة جداً، تكرارية جداً، إنشائية جداً، تقمصية جدّاً.
– أخشى على القضية الفلسطينية من الرّتابة، من التكرار، أعني اختزال الموقف في الإدانة. الغرب اليوم ينتفض، بينما الفيتو الذي يسند الاحتلال هو رسالة أكثر منه مساندة، هو تأكيد على أنّ أحكام القانون الدولي لا تسري على الاحتلال، يؤكد أيضاً أنّ تنفيذ القانون الدولي مستحيل من دون حيازة القوة، رسالة أخرى أقوى من كل ذلك: أنّ حساب المصالح الاستراتيجية أكبر من العدالة الدولية.
– لم يعد بمقدورنا أن نعزّي أهالي غزة اليوم، فهم جميعاً شهداء بالقول وبالفعل، فائض قيمة الشهادة هنا هو الرأسمال الرمزي الأكبر في العالم.
– استغل الاحتلال ضعف العرب، تناقض مصالحهم، فقدان الثقة وتمزق الميثاق العربي، لم يشتغلوا من قبل على تصفير أزماتهم وتقوية جبهتهم، سوف يواجهون العالم بجبهة ينخرها السوس، لم يلتئم شمل العرب بعد أن استفحل نزاع بعضهم البعض.
– أوافقك صديقي بأنّ التفاهة طالت واستطالت، وبأنّ غواية التهريج مسكت بناصية الخطاب، وبأنّ الكلام فاض عن المعنى، فاستنشأ القول وانسطل، ذهني متّجه إلى الأجيال التي ستتشكّل على هذا العَلَف المعرفي، في إسطبل الميديا ومراكز التفكير والتحليل والتآمر على الدماغ البشري.
– ومع ذلك، أرى في ثورة غزّة، ما يدعو للتفاؤل، سأستعيد نص الإهداء الذي صدرت به كتابي منذ ربع قرن حول تلك العلاقة المتوترة بين العرب والغرب، وفيها أقول:
«إليك جيل المحنة العربي حيثما أفاق حلمي بك عظيماً، وأصرّ حلمي على رؤياك عزيزاً، إليك قربان قلب مزقه هدير الشوق، ها أنذا أرسف إليك بأغلال حلم مخاتل، وصبابة حائر في دروب جُنّت بإشارات المرور، فأستحمل طغيان الغياب كي أعانق أمل حنين أضناه حزن المسافات بين لعبة الشرق والغرب، في ممشى مثخن -حتى الآفاق- بجراح صبر، لمّا يبرحه نزيف الانتظار.. إليك عساك تُصغي إلى ما تبقى من الكلام المباح»،
ادريس هاني: «العرب والغرب: أية علاقة، أي رهاني »، توزيع دار الطليعة 1998»
كاتب من المغرب

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار