أنطولوجيا الكوارث.. على هامش ندوة الكوارث وإكمالاً للمفهوم

تشرين- إدريس هاني:
أصل هذه المقاربة مشاركة بندوة «الكوارث في الفكر والأدب» نظمها المقهى الثقافي وشبكة المقاهي الثقافية بالمغرب بتنسيق مع المديرية الإقليمية للثقافة بمدينة القنيطرة (3/12/2023). لكنني أسعى لتغيير المنحى بما توحي به الهدنة التي تلي اللحظات التي يكون فيها الحديث فاتحة أفق لما ينبغي أن يتداركه التفكير. دائماً الزّمن الموضوعي للندوة لا يكون في صالح بسط القول وإثخان النظر.
لعلّ أوّل كارثة كان من المفترض أن تحدث، هي أنّ مجموعة كلاب كانت تتهيّأ لافتراسنا، حين مشيت خطوات خارج المركز، لقد عرفتُ ذلك نظراً لهواية طفولية قديمة: مُطاردة الكلاب الأكثر شراسة حدّ لُهاثها. لقد نبحتنا كلاب الغرب هذه المرة، هكذا قُلت لرفيقي مازحاً، وكأنني أستعيد حنين الطفولة إلى مقارعتها، وكأنّ كلاب الشّرق هي أقلّ ضراوة، مع أنّ لي سابقة في مهاجمتها يوماً في أدغال الغوطة. كنت أمشي بسلام قبل أن تنبحنا الكلاب، ما أشبه ذلك بوقائع «كانديد» (رواية فلسفية فرنسية).. كيف نسوس موقفنا الأنطولوجي من تجربة الآلام التي تزعجنا، تساءلت: هل هذا الرعب الذي تحدثه كلاب نبّاحة هو قدرنا في أحسن العوالم الممكنة؟.. سأعود إلى ذلك.
يحبل العنوان بما هو محتمل أيضاً ما عدا الكوارث الطبيعية، أعني تلك الكوارث التي تستهدف الفكر نفسه وتحوّل البنية التحتية للمفاهيم إلى أنقاض. هذه كوارث لا تقلّ ضراوة عما تحدثه الطواعين والمسغبات. ما هذا الزلزال الذي يَعصِف بالمعنى، قلب سافلها عاليها، أين يا ترى ذهب كل المثقفين؟.. وهو السؤال الذي عنون به فرانك فوريدي كتابه الاحتجاجي. وإن كان يعيدنا إلى موقف التنويريين الذين عانوا كثيراً أمام المثقفين الرافضين للتنوير. معضلتنا اليوم هي فائقة، هي بالأحرى زلزال أعادنا إلى أسئلة انهيار كل المفاهيم، بما فيها التنوير الذي بات تقمّصات لا تاريخية وأحياناً بهلوانية، تجد مدلولها في مبدأ المشاركة الأنثربولوجي. فحين تفقد الأفكار عمقها، حين يتم تهريب المعنى، تُصبح الحاجة أكثر إلحاحاً لعتمة تؤمّن قدراً من التفكير خارج لعبة الأضواء المهرجانية، أسميها: les lumières de la foire. إنّ كوارث الفكر هي التي توحي بأنّ انحطاط مغزى الوجود يترتب عليه انحطاط في كل المفاهيم التي تُنشئها المعرفة وتنشأ عنها في دور منطقي يؤكد مُعضلة إعادة الإنتاج. للمعرفة التي هي عين الوجود، تستلهم من مراتبه في السمو والانحطاط.
انهيار المعرفة مؤشر على انهيار الوجود. يلامس ألان دونو ظاهرة التخصص التي تجعلنا نحفر في نظره كما «القندس» في غور علم ما، بدل التحليق كباشق يشرف على كامل المشهد. إنّ نظام التّفاهة الشمولي الذي قاربه دونو، يدخل ويجب إدخاله في فكر وأدب الكوارث. إنّ حجم الدمار الذي تشهده المفاهيم عن طريق صُنّاع التّفاهة، يرقى إلى جريمة حرب كاملة الأركان. إنّ التّافهين لا يكتفون بمغالطة الحقيقة، إنّهم يُساهمون في صناعة الحرب، ذلك لأنّهم لا يستطيعون أن يعيشوا السّلام. من هنا عبقرية وصمود فكرة السلام، حيث أوّل أعدائها وآخرهم، هم التّافهون.
+ + +
لعل هذا يجعلنا نفكر بطريقة أخرى في الكوارث الطبيعية نفسها، إنّها وحدها التي توقف نزيف إعادة الإنتاج. إنها وحدها اللحظة التي تحفز بعنفها التساؤل حول الوجود. من هنا أهمية الحدث، الحدث دولوزياً (نسبة للفيلسوف جيل دولوز) حيث يتحقق التجاوز، لأنه يتجاوزنا، وأيضاً يمنحنا إمكانية لنتجاوز وضعيتنا. إنه الحدث الذي لا يستند إلى مركزية تتيح لنا تفسيره، إنّه كـ«الجذمور» شديد الانتشار بلا مركز ولا مرجعية، بل الحدث هنا في مآلاته لا في علله الأولى. ولا غروَ أنّ سياسة مفاهيمنا يجب أن لا تغفل عن كارثة التّفاهة، لأنّ مفهوم الحدث نفسه تمّ ركوبه في قراءات مُصابة بجذام الأيديولوجيا. إنّنا نفكّر من داخل كوارث الفكر والآداب نفسها. ألم تتحوّل الفلسفة نفسها إلى أنقاض تحت قصف مدمر انتهى بتفكيكها إلى اختصاصات عجماء؟ ، إن طلّ عليك أحد من زاوية، مزج بين تفاصيل مملّة مما يعلم مع أمّية مرعبة مما لا يعلم، قدر المعرفة أن يكون خليطاً من الجهل والعلم، ثم من قال إنّ الواقع يتشظّى كما هو نظامنا المعرفي؟.. من هنا رهاننا على العبر- مناهجية حتى في مقاربة الكوارث، لأنها تعيد إلينا حق التموضع في الشباك الأعلى لرؤية الأشياء في تعقيدها، كما تسهّل لنا طريق العودة للأنطولوجي. العبر- مناهجية هي أقوى سلاح للكفاح ضدّ التّفاهة الشّاملة.
إنّ الكوارث هنا أحداث يتجدد من خلالها وعينا بما أدرجناه بحكم النسيان في المهمل التفكير فيه. إنّ العبر- مناهجية تخترق حدود اللاّمفكر فيه، تخرق التخوم. إنّ مقاربة الكارثة من منظور أوحد، هي كارثة أخرى، إنها لا تجعلنا تحت طائلة أخطاء بارالاكس في الطبيعة فحسب، بل ستنقلنا إلى أخطاء بارالاكس في استبصار الوجود.

وأعتقد أنّ معضلة الأصل بين الوجود والماهية، نابعة من أخطاء بارالاكس أيضاً.
+ + +
حتى آخر لحظة قُبيل مداخلتي، نسيت أنّني دخلت نادي كتّاب الكوارث منذ «كوفيد 19» حيث لي مع كورونا نوبات منذ النازلة الأولى للوباء. أمام كارثة الوباء وأمام كارثة زلزال الحوز الذي ضرب المغرب، كان تشبثي بما هو خبيء خلف الحدث. كتبت فيلو- كورونا، وهو يحتوي على فصول كتبتها منذ اليوم الأول للوباء، رُهاب الوباء الذي بلغ الشمولية لم يغير لهفي إلى السؤال الأنطولوجي. هناك وفي ذروة الهلع كتبت: كورونا أو شعرية الوباء، وفيه ذكرت بأننا – ولكي لا نقع في نسيان الوجود – علينا أن نقف على ما يعيق هذا الوعي، ونقصد بذلك ما تمنحه شعرية الوباء في تجاوز الحدود الصلبة التي تؤطر معرفتنا بالأشياء. كنت أعني أن كورونا فجرت فينا الخيال، كما فعلت تراجيديا الطواعين في مأساة هاملت. الوباء أعاد النّاس إلى بيوتهم، إلى تلك التفاصيل التي تحيلنا إلى جاك بريفير. أعاد الوباء الناس إلى علاقاتهم المفقودة، إلى الأواصر الأبوية، انتصر للأسرة وكبح جماح التّيه.
وبعد زلزال الحوز كتبت أيضاً: زلزال الحوز وشعرية المكان. قلت يومئذ: أثارت لديّ الهزة الارتدادية، ليلة أمس، مجموعة من التساؤلات تخصّ عِلمَ العِلمِ، بقدر ما تخصّ أيضاً السؤال الأنطولوجي لكائن ما زال يعيش حالة اغتراب قُصوى؛ حالة دازاين مثقل بقلق الوجود على كوكب قابل للاهتزاز.
في المثالين أعلاه، ليس ذلك شعوراً لا مسؤولاً بالحدث، بل يقظة وحدس للوجود. كيف ننحت موقفاً يتجاوز الحدث إلى ما بعده؟.. فحين تنتصر على الخاصة الأساسية للكارثة، وهي الرعب، تستطيع رؤية الأفق. مثل هذا يحدث فقط وفقط حين يكون شاغلك هو سؤال الوجود. إنّ أصالة الماهية ما زالت تهيمن على إدراكنا المزيف بالوجود، هي التي توقظ فينا القابلية للهلع. لا شيء يُوقف العادة غير الكارثة. لا كارثة أعظم من عدم الاكتراث بالوجود.
يواجهنا سؤال أصل الشّرّ، منذ أبيقور، وهو أوّل ما يُثار في قضية السعادة والألم، معضلة استنزفت الفكر الحديث نفسه ردحاً من الزمن، وفي مقطع من مقاطع ذلك الجدل انبعثت ثورة التنوير. معضلة الشّر والألم، السؤال الذي تجاوزته الفلسفات الشرقية القديمة، فلسفة الزن مثالاً (الزن.. فلسفة العبور من عالم الألم إلى عالم النيرفانا). ومع ذلك نؤكد أنّ المشكلة تبدأ من تصورنا المانوي للعالم، للخير والشّر، لتصورنا لعلاقة الوجود بالماهية، العلاقة التي تحمل تصميم هذه الثنوية. لو أدرك ذلك الرّهط بأنّ الوجود خير محض والشرور إعدام، لأمكنهم الاقتراب من الحكمة المتعالية في طورها الأكثر نضوجاً. كل ما يأتي من الوجود هو الخير، كل الشرور تأتي من الماهية التي تقع دون حقيقة الكمال الوجودي. هذه البذرة الخبيئة التي سيقتنصها هيدغر ليُميز بين الوجود الحقيقي والوجود المزيف، ويواصلها سارتر مُكابداً، حيث مسؤوليتنا وحريتنا في تشكيل الماهيات، وحيث وجودنا انقذاف مفرغ من الماهية. إننا هنا إزاء مخرج آخر، الشرور شؤون للماهيات. أليس في هذا جواب عن أبيقور وفولتير؟
+ + +
مرة أخرى إنّ فكرة أفضل العوالم حاولت إنقاذ الموقف، قبل المنعطف الذي نشأ على إثر زلزال لشبونة. سيعيدنا فولتير إلى ضرب من التشاؤمية المفرطة. مجايلوه من التفاؤليين رأوا في هذه التشاؤمية تصاغراً في الفكر، إنّها تشاؤمية مضللة أيضاً، ولكنها تنطوي على إيمان عميق. لم يستنتج فولتير من الشّر الذي سيتفنن في تسريده كشريط ممنهج أمام تفاؤلية كونديد البريئة، ولكنها من فرط براءتها باتت غبيّة. إنّه دخل في معركة مع الإله ليس بالنفي، ولكن بإثباته كفاعل لا رادّ لإرادته. إنّني أتفق مع جون جاك روسو حين وضع يده على الجرح في الاعترافات، حين وصف فولتير بالمسكين، الذي كان يعتقد في الواقع بالشيطان وليس بالله، الرجل الذي غمرته الحياة بالغنى والثروة لكنه أبى إلا أن يحول بين الناس والتفاؤل بالسعادة. إن روسو شعر بخيبة أمل وهو يحاول إعادة فولتير لرشده. لكن يبقى أنّ فولتير تغير، وهو حسب هنري كلوار انتهى إلى هذه الرؤية بعد أن كان مختلفاً في بداية مشواره، إنّ مرد ذلك إلى مسلسل النكبات التي واحدة منها زلزال لشبونة والقراءة التحريفية لفكرة أفضل العوالم الممكنة لدى ليبنتز. لقد كان فولتير قاسياً في الرد على روسو، وفي نهاية المطاف كانت «كنديد» ليست ردّاً على ليبنتز فحسب، بل هي الرّد الحقيقي على روسو، هذا الأخير الذي يشعر من خلال تلك المراسلات مع فولتير أنّه انتصر على فولتير.
لا نحتاج أن نقرأ ما بين سطور قصيدة فولتير وصفاً لخراب لشبونة، إنّها صريحة في الوصف والتّأنّن والاحتجاج على الشّر. كان فولتير التنويري لا يقرأ الزلزال من وجهة نظر العلم.

+ + +
في كنديد، ستستمر هذه التّشاؤمية، بل إنّنا أمام حالة حسن النّية التي أولاها فلاسفة القرن الوسيط حتى ديكارت أهمية كبيرة. لعلّ سبينوزا هو من غامر أبعد مدى من ذلك حين احتوى الثنائيات الشّاغلة للعقل إلى تصالح الأضداد، من خلال نفي الخير والشّر معاً. أن تعرف وتفهم أنّك لست حرّاً، ذلك من شأنه أن يُحررك. كل شيء هو حالّ في نظام الضرورة. في كنديد ستستمر هذه التشاؤمية التي غاضت (نزلت) بجون جاك روسو، بل مع كانط الذي سيُلهم من بعده ما سينهض أساساً لعلم الزلازل. كنديد الذي عاش كل هذه الملحمة من البلاء برباطة جأش وحسن نية. فالذي تعلمه كنديد من بنغلوس – منذ دروس قصر وستيفاليا وحتى لما رآه في أرذل وضع – أنّ الأحداث في تسلسلها هي كذلك في أفضل العوالم الممكنة. ومع كل هذه الآلام والانتظارات، قصارى ما بلغه كنديد – الذي لم يعارض يوما بنغلوس- هو عبارة أجل، ولكن يجب أن نزرع حديقتنا. وأعتقد أنّ فولتير الذي تفنن في ربط حوادث الشّر والسخرية مع الأمل حدّ ربط التفاؤل بالسذاجة، وكنديد بالأبله، هو هنا يرضخ بأنّ فعل الإنسان لا بدّ أن يستمر رغم وجوده تحت طائلة الشّر. فهذا عنوان آخر لما تحدثه الكوارث في الفكر أيضاً.
تنشط الزلازل في كل المناطق، حيوية كوكب في حالة حركة، إنّما الكارثة تتعلّق بطبيعة العمران البشري وتموقعه ومآلات فكره. أذكر لمّا وقفت على بعض أطلال لشبونة، على آثار من ذاك الخراب، تحسرت كثيراً. شيء ما من كنديد حضر في رؤيتي لتلك الآثار. لقد رأيت امبراطورية تنهار، كان لها شأن كبير على امتداد شبه الجزيرة الإيبيرية، وكان لنا معها أكبر نصيب، لأنّها يوم كانت غامرة في حرب ضد المغرب بقيادة الإمبراطور سيباستيان، ستكون نكبتها الكبرى، سيباستيان الذي سيقتل وسيتحلل جسده في وادي المخازن. كانت تلك نكبة انتهت بانهيار الإمبراطورية. شعرت أنّنا ساهمنا في ذلك. ولكن سقوط هذه الإمبراطورية انتهى بصعود أخرى، حيث استمر الغزو. ومع ذلك فتفاؤليتنا الطافحة، وعلى الرغم من كلّ المواجع، بقينا متفائلين وليس بالضرورة برسم أفضل العوالم الممكنة ولا أصالة الشّر، بل نحن شركاء في النكبة من حيث ماهياتنا التي نصيغها باختياراتنا، من حيث رؤيتنا للأشياء. إنّ عالمنا متروك لحريتنا، لماهيتنا، نحن من يحدد هل هو أفضلها أم لا. الحرية والمسؤولية.
+ +
أريد أن أذهب إلى ما هو أبعد من الكارثة الناتجة عن عدم توافق مقتضيات نشاط البيئة مع تموقع واستقرار البشر. أعني هنا تلك الكوارث التي يصنعها الإنسان نفسه، سواء من خلال استفزاز البيئة ومراكمة الأخطاء، أو ما يتعلّق بالحرب. إنّ الحروب اليوم تخلف دماراً يفوق ما يترتّب عن الكوارث الطبيعية. ملايين الضحايا، مدن تحصدها الأسلحة المتطورة، هذا بينما ينطوي المخزون الحربي لدى الدول العظمى على قدرة كافية لتخريب الكوكب برمّته. كيف يُسائل إنسان الحروب الحديثة وجوده وماهيته؟.. انظر إلى خراب زلزال تركيا وانظر إلى مخلفات العدوان على غزّة. إنّ الكوارث الناتجة عن غريزة التدمير تفوق تلك الناتجة عن حوادث الطبيعة. لماذا سيمنح تولستوي للتاريخ أهمية فائقة إذن لحلّ معضلة الضرورة والحرية؟.. تلك المعضلة التي يمكن أن تنحلّ في حدس الوجود.
في مساءلة آنشتاين المولع بالنزعة الإنسانية وبمطلب من عصبة الأمم، آثر هذا الأخير محاورة فرويد حول معضلة الحرب. تتيح لنا هذه الأخيرة تذكير العالم بأنّ القانون غير قادر على احتواء الحرب. بالنسبة لفرويد، فإنّ غريزة التدمير توءم طبيعي لغريزة الحياة. ثمة قوتان تتنازعان الإنسان، حيث صراع المصالح سيجعل الحرب مفتوحة على كل الاحتمالات. شيء مركوز في أعماق كائن، حيث وجود سادة وعبيد، هي قضية غريزية. تبقى الحرب أقرب إلى الطبيعة، ولا يمكن أن نبتر غريزة الموت من الإنسان. إنّ نظرة فرويد للحرب هي في جوهرها نظرة داروينية بامتياز. ليس هناك من طريق لإيقاف العنف سوى بالاتحاد، الذي هو نفسه القانون. يضع فرويد شرطاً لتحقيق العدالة في هذا الاتحاد، هو الاستمرارية، حيث اتحاد الأغلبية وحده يوقف عنف الفرد الواحد.
وجب التنبيه هنا، إلى أنّه في صميم هذا النقاش، تكمن حقيقة أنّ النظام الدولي ووجود هيئة ناظمة للعلاقات الدولية خرجت من جبّة المثقف، ولكن أي مثقف؟.. إن أنشتاين في مراسلته تلك هجا المثقف الانتهازي والنخب التي تساعد على إذكاء الحرب. محلل نفسي وعالم فيزيائي، انتهى تحليلهما إلى التأكيد على وجود هيئات ضامنة، ترعى هذا الانضباط وتؤمن الخضوع للقانون ومراقبة احترام ذلك القانون.
مقترح سيغموند فرويد سبق نشأة الأمم المتحدة، وهو نابع من فكرة العقد، من تلك الحقيقة الوحيدة التي تُخضع عنف الأفراد لعنف الجماعة. هنا توماس هوبز، وأصالة العدوان. لكن قراءة جديدة لمحتوى جوابات فرويد عن تساؤلات آنشتاين، تجعلنا أمام نكبة أخرى. إنّ القانون الدولي اليوم لا يمتلك مصداقية تنزيلية.

والأغلبية اليوم ليست هي من يُخضع العنف الفردي لإرادة الجماعة. هذه الديمومة الضامنة حتى من منظور فرويد لم تعد قائمة. لقد انهارت الرقابة والمصداقية الأممية كما نشاهدها اليوم في آخر النكبات التي نتجت عن حرب الاحتلال الناشز عن طبيعة العنف نفسه كما يمارسه بنو البشر ضد المدنيين. العالم في وضعية الأخرس والأبكم حيال ما يجري هذه الأيام. لنقرأ وصف فولتير لخراب لشبونة على غزة، إنه الخراب نفسه، وهذه الحرب نابعة من غريزة التدمير، لقد انتصرت غريزة الاحتلال على عدالة التحرر. والأغلبية تقف مع موقف الاستفراد بالعنف في منطقة لم يعد فيها شيء خفيّ. إنّني أتفق على أنّ الحرب لا نهاية لها، ولكن ألا يمكننا على الأقل- كما فعل كنديد – أن نزرع الحديقة بأيدينا؟
كل شيء هنا قابل لأن يصبح في خدمة الشّر، حتى التقنية. إنّ الشرور نابعة مما جنته أيدينا، وما التقنية إلاّ امتداد لليد. فهي كذلك هيدغيرياً وفي تاريخ تصورنا لليد، اليد عند هيدغر جوهر جسماني مستقل عن الجسد. ففي كل أطوار الدازاين، من الأومو – سابان حتى الأومو- ليدينز مرورا بالأومو- فايبر، لليد شأن كبير. عنوان عطاء وعنوان بطش. حتى عند ميشيل سير، الإصبع الصغير المتحكم بالمصير. هل توجد كارثة أكثر من أن ترتهن الحضارة البشرية لإصبع صغير قد يكبس على أسلحة الدّمار الشامل؟.. لعبة اليد في الحروب ذات التقنية الهائلة، تذكي مزيداً من الزّهو بالانتصار السّهل، حين تحلّ التقنية نفسها معضلة الجُبن، وتجعل القتل مريحاً، صفر ضحية الذي يقابله دمار شامل لدى الطرف الآخر. إنّها الحرب بوصفها امتداداً للسياسة من منظور كلاوزفيتز، لكنها بالأحرى هي امتداد لغريزة العدوان، لما قبل السياسة.
من يا ترى يوقف الحرب، ما عدا أنّ ندرك أنّ العُصاب الذي يذكي الحرب، لا يمكن أن يُعالح لا بالقانون ولا بالتحليل النفسي ولا بالعنف الفائق، بل هو نابع من غياب السؤال الأنطولوجي، بل إن كان التحليل النفسي قد اهتدى مع بعضهم إلى ثورة جديدة، أي التحليل النفسي الفينومينولوجي، أليس أولى أن نفكّر من الآن في مشروع تحليل نفسي أنطولوجي، يُعالج أدواء النفس الفردية والجماعية والدولية بتقنيات الاحتواء الأنطولوجي؟
إنّ ما يبدو إرادة الأغلبية، بات استقواء المتفرُّد، عودة إلى الداروينية «السياسية» في العلاقات الدولية، وهو ما يتهدد العالم بكوارث تفوق تلك التي تحدثها الطبيعة عن غير قصد في إبادة البشر. إنّ ارتهان المصير البشري لعُصاب التحكم بالعالم، وانهيار آخر أمل في تقنين النظام الدولي، يفتح المستقبل على كوارث تفوق ما عرفته البشرية، وهي دائما تتسم بالشمولية والتعقيد.
كاتب من المغرب

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار