ستبقى الأرض السليبة عنوان كفاح
تشرين – إدريس هاني:
وجود أصوات نشاز في معركة الوعي انتهت إلى الدّفاع عن الاحتلال والاصطفاف ضدّ شعب مُكافح، دليل على عقيدة تقليدية للاحتلال، ألا وهي عدم التفريط في أي فرصة سنحت، بمثابة كونها حفرة صغيرة في سفح الجبل تُمكن من صعود قمّته، لا في زمن النكبة ولا النكسة وحرب تشرين، كنا نرى هذه الظواهر العجيبة، لكنها اليوم موجودة، وإن لم يكن لها أفق، فحين ينتفض شعب، لا يوقفه أحد.
– هناك مغالطة المقارنة: هذا أولاً وذاك ثانياً، حسابات ميكانيكية جوفاء، خرق لقواعد السياسة والمشاعر والتّاريخ وفيزياء الكم، حيث يصبح الأولوي ليس في عرض الثانوي، بل هو في طوله، هل يريدون أمّة بلا إحساس؟.. هذا التبسيط متجاوز البداهة.
– بعضهم اكتشف فكرة الأعماق الاستراتيجية، وبها برّر كل الاختيارات السياسية من ذي قبل، حاثّاً الدول من خلال حقها في السيادة أن تصل إلى الهارتلاند، لكن حين يتعلق الأمر بفلسطين، تصبح الدعوة للانكماش، للانمساخ الجيواستراتيجي، وكأنّ عمقنا الاستراتيجي لا يوجد في غزّة، الدّول والخبراء يدركون ذلك جيداً، البروباغاندا لا تغيّر قواعد الجغرافيا السياسية.
– مرة أخرى تعجز الطائفية المنطوية على سُمِّها الزعاف عن توسيع البيكار، وغالباً ما تتساقط السنافير على قماقمها عند تحوّلات المشهد، هنا في كل بيان وخطاب تغيب الرموز التاريخية للمقاومة، وترسم كانتونات، ندخل فيها مفارقات الأسماء. كم هو ثقيل الاعتراف، الكفر بالنعمة، وضعية «غبي بريفير» الذي يمسح كل ما في السبورة، الأرقام والحروف، يجهل هؤلاء المجاهيل، أنّ الميدان والتاريخ لا يقفان عند الأماني.. تلك أمانيهم.
– الأبطال يشتبكون في الميدان وفي الخطاب، في «الشوك والقرنفل» ليحيى السنوار، كلمات مثقلة بروح مقاوم، شامخ بصموده وتواضعه واعترافاته، الرجل المناضل والطيب، كما ينبغي أن يكون كل مناضل لا يَجرُّ خلفه ميراثاً من الحقد والتّفاهة، المناضلون لا يحقدون، المقاومة تبحث عن الالتئام، والمرجفون مشغولون بـ «هذا لنا وذاك لكم» والحقيقة ليس للمرجفين سوى البؤس وقلّة الوفاء، من لم يكن أميناً في المال العام، من همّه اهتبال سانحة التمكين لاحتلال المديريات والمؤسسات ليرقّع تاريخه المنتوف، من لم يكن وفيّاً لمن شاركه تاريخ البؤس من ربّات الحجال، من يطلق لسانه للمغالطة تأسّياً بميراث الأسخريوطي: (ليس علينا في الأميين سبيل).. من كان الدين لعقاً على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت معايشهم، فإذا مُحصوا بالبلاء قلّ الديانون، كما في خطاب أبي الأحرار أبي عبد الله الحسين صريع نينوى، من لا يملك سوى مضغ سردية مكرورة ونظره الحاقد على مجذوب سبق ودعا عليه في الخلوات بأن لا يفلح أبداً، وزاد «اللهم ومن أرادني بسوء فأرده ومن كادني فكده».. من كان من هذا النمط، فماذا تنتظر منه؟ الوفاء ملّة واحدة، والتجزيء كخلط الأوراق، آفة من لم تسكن بين ضلوعه أحاسيس بني البشر.
– ما أهلك هذه الأمّة سوى غباء بعض أبنائها، وهم موجودون في كل مكان، وفي كل اصطفاف، وفي كل الطوائف، وفي كل الأحزاب، وهناك من جعل الدّجل منهجاً، تعرفهم في لحن القول، وبين سطور نصوص اللصوص، وفي إنشاءٍ أجرب مُثقل بالهمز الجبان، ومحتوى مستوحى من أصوات الصيصان، التّاريخ أكبر من أن يفهم ماضيه الأُلعبان، فكيف بتاريخ المستقبل.
– التّاريخ المديد ومكره كافيان لكشف الغطاء عن المرجفين، آثار العلف الرديء يظهر في صوت صراصير اللّيل، الذين ارتوى ذهنهم بالتجديف حتى الثمالة، فنبتت لحومهم وشحومهم واشتدت عظامهم على وعي غبيّ، وعي جلاّل، لم تستبرئ منه المُهج المُصابة بالطواعين حتى اليوم، مهما تراقصت العيون، وتباكت تمسرحاً بقلب كالحجارة أو أشدّ قسوة، بتواضع المرائين تدويخاً للرأي العام والبهاليل، برقّة قلوب أثقلتها حسابات غير ذات الشوكة، وتهجي لغة الدّيانين لمن في ذمته قرن من قضاء واجبات المتشرعة، صاحب الصناديق المليئة بأحجيات باندورا، فيلم هندي، ليتني ظفرت بهم لأفركنّ آذانهم فركاً، حينما تريدون تقليد من تحتفظون لهم فقط بالتي واللتيّا، حيث تاريخكم تقليد ومماحكة، فاعلموا على الأقل أنّ عنترياتنا الهوائية أمام جمهور غير واعٍ بحقائق الأمور- ومن هنا الخوف من الأحرار العارفين- هو فصل جديد من الاستحمار .. لا تقلدوا من تحقدون عليهم.
– كونوا لفلسطين زيناً ولا تكون لها شيناً، الموقف والمبدأ يحولان دون وضع رِجل هنا ورِجل هناك، لسان يلحس طنجرة هنا ولسان يلحس طناجر هناك، أمامكم الحدود، ادخلوها، اليوم لا تثريب عليكم، ما المانع يا ترى؟.. فنون القتال لها أسرارها وقواعدها، ومن لا تحمله قدماه ولا يحسن المشي على الرصيف ولم يكن له في الفروسية باع قصير أو طويل، فلا يصف نِزالاً ولا يحلل واقعة ولا يقول شططاً.
– ستظل فلسطين عنوان كفاح وتحرر وطنيين، ودائماً وفي كل المعارك العادلة تظهر حالات ومواقف مُبهمة، وأمراض وتعويضات نفسية وقطع مسرحية. إنما جوهر القضية سيظل عنوان كفاحنا جميعاً، هو نفسه العنوان الذين كلفنا تضحيات ومَهاجرَ، هو نفسه ماجعلنا صامدين حتى أمام كل المؤامرات التي يقوم بها المنافقون حتى نتخلّى عن فلسطين، ولا نشوش على الفيلم الهندي واستقرار الدكاكين، يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ستظل فلسطين عنواننا قبل أن تقطر بكم السقوف، لأننا نحن من ضحّى وليس أنتم، أو بتعبير آخر: من أنتم؟