هل واكب الوعي العربي انتصار غزّة؟

تشرين- إدريس هاني:

باتت غزة سفينة العرب، من ركبها نجا ومن تلكّأ عنها غرق، يسعى الاحتلال لإعادة العرب إلى بيت الطاعة، وإلى زمن القوة الناعمة، ماذا بقي من عناصر الجذب في كيان عجز عن احتواء مقاومة؟ من كيان عادت أحلامه التوسعية بعد أن تراجعت تحت ضربات المُقاومة التي كفر بها الكثيرون وجدّفوا ضدّها ليالي، وقالوا فيها ما لم يقله غوبلز في عدوّ؟ لكل شيء تاريخ، لكل خطاب مسار، من استقام على وعي صُلب ظلّ عليه، ومن كان في حيرة من أمره، من وعيه، فهو يقفز بين الأغصان كالسعادين، لهذا يخشى سماسرة الأزمات من المؤرخين ويتقولون فيهم.
– غزّة أسالت مداد من جفّ مداده، وأنطقت من قُطع لسانه، وحمّست القاعدين أنفسهم وأطلقت ألسنتهم، باختصار: إنّه مشهد كبير، لسبب بسيط، أنّه  مشهد فلسطـ..ـيني، أرض سليبة وشعب مُكافح، لا فضل لأحد على مقاومته إلاّ من أهداها مُهجاً ومكنها سِلاحاً، فلا نبحث في خوابي فارغة عن بلاغات نُخفي بها تاريخ الهزيمة، ولا يمكن أن يصدر درس الكفاح ممن لم يملك منه سوى الزّعيق على امتداد تاريخ من التمكين والتصفيق (الصفقات) ولعبة السياسوية، مهما انتفخت اللُّتيّا والتي، أمّة الصفقات والنمائم لا يمكنها أن تكون نصيراً لمن كافح، إلاّ أن تهدم هيكل وحدة الساحات، وتلحس القناني المتبقية وتؤرّخ لمساراتها المشبوهة بأثر رجعي وعن طريق “قلب القِفاف”، تحيا فلسط..ين، واللعنة على سماسرة الأزمات، والأفاعي الرّقطاء، التي تزعق باسم الشعوب وهي تستأصل بالتّآمر صوت الأحرار، كفاح الشعوب ليس لعبة ألفاظ وتمثّلات إيمائية وخطابية ممن خاصمهم المرجفون بالنهار وقطفوا من تجاربهم في القول والمعنى بالليل، هذا مظهر من مظاهر السُّرّاق.
– سيستمر الاحتلال في عناده، وسيستمر الكفاح الفلسط..يني، تحمله الأجيال، فلا خوف على بيت المقدس، لأنّ الطفولة التي سعى الاحتلال لإبادتها، أخذت درساً جديداً، ألم نقل إنه من تحت ذاك الرميم ستنبت شوكة ضبّ وغضب؟
– انتصار المقاومة تمّ، وهذه قضية لا يفهمها من استصغر شأنها، فالمغالطة واضحة المعالم، من آلمه وضع أطفال غزة ليجعل من ذلك حجة لضرب المقاومة، لماذا لا يدين حرب الإبادة؟ لماذا يستعمل الأطفال فقط للتغليط، كان الاحتلال يحتجز الآلاف من الأسرى، كرهائن، هم في حكم الموتى والمعذبين في الأرض، وكان القدس يواجه ما يواجه من صلف وعدوان، واسترخص الاحتلال أرواح المدنيين، واعتدى عليهم في الطرقات والبيوت والمسجد الأقصى، لم يعد للإنسان الفلسط..ـيني مأوى، لقد جاوز الاحتلال في عدوانه المدى، وكفر بكل شرعية دولية وعرف إنساني، كأنّه كان استثناء في القانون الدولي الإنساني وبنوده، لقد دافع الفلسط..يني عن نفسه، وابتكر أساليب لمقاومة المحتل، وهذا هو منطق التّاريخ، فهل يا ترى كانوا ينتظرون نهاية تاريخ فلسط..ين وجغرافيتها؟
– حين يتحدّث الاحتلال عن المقاومة، ويختزل كفاح الشعب الفلسطيني في منظمة، مع أنّ المقاومة هي اليوم أكبر من منظمة، كما لو أن ذلك الفصيل الذي قاد عملية طوفان الأقصى بذكاء، هو دخيل على فلسط..ين وليس من شعبها، وكأنّ الكفاح سينتهي لو تم استئصال المقاومة، لا تُزعجهم المقاومة اليوم إلاّ بمقاومتها التي أظهرت التزامها بها أكثر من أي وقت مضى، وهم يُغالطون العالم، حيث عمليات الاستئصال ظلت نهجاً منذ النكبة، واستهدف بها الاحتلال كلّ المنظمات المقاومة، إنّه من خلال استهداف المقاومة، يستهدف الشعب الفلسطيني، بل الشعوب العربية والإسلامية المناهضة للاحتلال، ومعها أحرار العالم الذين كانوا ومازالوا يعبرون عن موقف تضامني مشهود، وازداد شهوداً في زمن التّواصل والتشبيك العالمي السيبراني والبثّ المباشر عبر صور ثلاثية الأبعاد، لم يعد أحد يحتاج لشاهد عيان عابر سبيل.
– أصحاب الميت صبروا والعزّايا كفروا، المثل المغربي مازال قائماً، يعترف رجالات الميدان بدور السّاحات ويقدرون تضحياتهم، ويكفر بها الأباعد القاعدون، الذين يثقل على ألسنتهم الطويلة ذكر أفضالهم، والشكر في الخطاب يبلغ الأمريكيتين والبورورو، ولا شكر لمحور المقاومة من نفوس تشكو من البلهارسيا الطائفية والرجعية والبؤس المعرفي والسّم الزّعاف، إنّني أشعر بتفاهة المشهد، لما أجد بعض حاطبي ليل بدؤوا يتمثلون عقلانية الخطاب وفلسفته، ولطشة من هنا أو هناك، لا تنفع إلاّ في سوق النخاسة. إذا أردنا أن نتحرر بالفلسفة، علينا أن ندرك من أسقط أصنامها. سقراط يا ولدي، على علوّ شأنه لم يقضِ على السوفسطائية وحدها كما يسود في الكتب الصفراء، بل وضع حدّاً للتراجيديا وثورة ديونيزوس، سقراط اختزل الوجود في ضرب من المقولاتية، لكنه قوض الحياة، نيتشه أسقط كل ذلك، ليعلنها معركة الوجود، فلينظر الإنسان إلى طعامه، هناك قد توجد طحالب فاسدة، والنظر إلى الطعام هاهنا هو نظر إلى العلم ومصادره.

المغالطة هي الشيء الأعدل قسمة بين الأبالسة، كذلك ننظر إلى مظاهر التحايل على الضمير، تعرفهم في تدبير المغالطة، من يستسهل الحكم ضد الآخر ويصعد التبرير لفواعل النفس، فهو من قبيلة “النّواعير”، لا يمكن أن يختار رجل كفاح دكاكين لم يكن الكفاح عقيدتها، ودت دائماً لو غير ذات الشوكة كانت لها، أعرفهم في لحن القول والإنتماء، إذا جاءتك مذمة من مشبوه، من منخرط في التّآمر السياسوي، من تجذّر في المؤسسات، من إذا شاء فعل وتمطط بلا حسيب أو رقيب، فهو من قبيلة الهاربين إلى الأمام، منتحل صفة مناضل، غرائبية الإفتاء والقياس المتبختر فوق عقل يزعم أنه تسقرط بينما مازال يقطر بلعاب السفسطة، فقه بلا فقه، ومقاصد بلا مقصد، استدراك على ما فات والقلوب هواء، رحم الله امرئاً صالح الاحتلال يوماً، أن لا يتعنتر متمسرحاً.
– تطورت المقاومة تنظيمياً وعملانياً، وهي تنطوي على روح تحررية قديمة، يدركها الأحرار وليس من ترقّع عبر تمثّلات مُفارقة، وهي تطورت في تقنياتها وأخذت من التكوين ما يكفي ومن العدة والعتاد ما يكفي، هم في كل هذا مدينون لمحور آمن بالمقاومة مبدئياً، ولا ينتظر جزاءً ولا شكوراً، في زمن حتى الصين وروسيا لا تستطيع دعم المقاومة بالعتاد، سيدرك العالم ما بعد الطوفان، ما هي حقيقة هذا التطور، شباب غزّة المقاوم، هو من طينة أخرى، طينة الفرسان، وهم لا يشبهون القاعدين النافثين للسموم، هم أكدوا بما فيه الكفاية وأزود، بأنّهم فُرسان، فمن لم يكن من الفرسان، لن يعرف هذا المعنى، والفروسية ليست في نفخ الأوداج، بل في الميدان، ليس في ابتكار أساليب تواضع المرائي، بل الفارس الشريف لن يكون إلا فارساً كريماً، وليس هباءة تحت الصُّبّاط: (ولقد كرمنا بني آدم).
– “هآرتس”، تعترف بأنّ السنوار نجح في شن حرب نفسية على الاحتلال، بولتون يعترف بأنّ المقاومة حققت انتصاراً كبيراً، لماذا يخشى البعض الاعتراف بأنّ الاحتلال دخل في طور جديد من تاريخ الهزائم؟
– سندرك يوماً أنّ الأساطيل التي تحجّرت، والاحتلال الذي ارتبك، وأنّ قواعد اشتباك ألزمت المحور أن يُنقذ المنطقة بل العالم من حرب قد تبدأ إقليمياً وتنتهي عالمياً، حرب الكبار، حرب لا هوادة فيها، حرب مع الغرب في اشتباك مباشر، الحرب مع المحور أقلها إقليمية، حرب دول، والحرب هناك لا تمزح، من يجهل مقدّمات الحرب وحساباتها، لن يقشع ولن يفهم، لاسيما إذا كان محمّلاً في جيده بحبل من الكراهية والحقد والمُقاربات الصّفراء، حسابات القوم مختلفة، والإيقاع الرفيع للتحدي يُحسب بمقاييس جيواستراتيجية بعيدة المدى، كلّ درس يخرج من بلعوم جبان، كمشجع فريق في كرة القدم، وفي يده حلوة الصوف (غزل البنات) ويلعن حارس المرمى والحَكَم.
– لكل مؤرخ لبيب مرصد يتتبع فيه تاريخ الأفكار والنوايا، تاريخ الإيماءات وتهجّي الحروف، لا يظنّن أحدٌ أنّ شيئاً سيمرّ من هنا بسلاسة، حارس مرمى ومعبر الكلمات، انتبه، لكل أمّة سُرّاق، وأنا لسُرّاق قبيلتي بالمرصاد، النّار هنا لظى والحرب حامية الوطيس، والبهلوان لامكان له في الهيجا، والكبرياء حين اشتباك السيوف فروسية، والتواضع عند وضعها أوزارها مكرمة، والاعتراف خصلة النُّبلاء، ومن ليس له من فنّ الحرب سوى الطِّعان نميمة وأكل لحم البشر ميتة والتآمر مع خنازب الصلاة، لتمزيق وحدة الأمة والمزايدة بكنانة لا أهزع فيها، والنيل من الشُّرفاء إسفافاً، فلن يُفلح أبداً.
– ما تبقى اليوم، هو محاولة من الاحتلال لاستعادة قواعد الاشتباك التقليدية، تلك التي أسقطتها المُقاومة، هو محاولة دولية للحفاظ على وضعية الاحتلال بمرجعية كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو، كيف يجعلون العالم ينسى أنّ شعباً تعرّض لإبادة جماعية وألوف الأطفال خضعوا للمحرقة، ثم سيكون له بعد كلّ هذا شريك في السلام؟ الشيء المهم والأهم الذي حدث، هو أن قضية عادلة حاول النظام الدولي ابتلاعها بضغط من الاحتلال وحلفائه، لم تكن قضية سهلة الهضم، فها هي تعود كأهم قضية تحررية في العالم.
إرادة الشعوب الحرة أقوى من الهيكل الدّولي، حركة التحرر الوطني جزء من مكر التّاريخ.

كاتب من المغرب

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار