غزّة ودليل الحيران
تشرين- إدريس هاني:
سقف غزة ليس هو سقف الأمم المتحدة، ابن الأرض يستند إلى العرف وقواعد الاشتباك الطبيعية، لن ينتظر إذناً لكي يقوم بواجبه، هذا الدرس بات واضحاً، فما بعد غزّة من المفترض أن يكون واضحاً. المثقف الغربي – ماعدا من يدفع تكُلفة الموقف – هو أصغر حتى من السياسات التي ترسمها تلك المبادئ التي اعتبرها هابرماس في خرجته البائسة من منظور الحرية والمصلحة العامة وقواعد النقاش العمومي الديمقراطي، المبادئ التي تجعل شعباً بكامله يدفع ضريبة حكاية جرت في أوروبا.
لم نسمع أنّ قوات الاحتلال اقتادت أسراباً من أسرى المقاومة إلى الأسر، حتى الآن هي تتحدث عن هدنة، وإيقاف الحرب، لكن ما معنى الحرب؟ إنّ الاحتلال يتحدث عن حرب غير مُعرّفة في القانون الدولي، هو بالأحرى يتحدّث عن حرب على الأطفال، نستطيع القول: إنّ الاحتلال لم يخض حرباً، بل قاد حملة إبادة ضد المدنيين، أمّا الحرب، فلم يعد قادراً على خوضها ضدّ مقاتلين بقواعد الحرب.
– يخشى الاحتلال أنّ يدرك العرب أنّ الاحتلال بات عاجزاً عن مواجهة مقاومة داخلية، ويخشى أن تتشكل ثقافة جديدة خارج مشاعر الهزيمة المزمنة التي كرسها العدوان الثلاثي، لقد كانت حملة الإبادة شكلاً من إعادة التربية بوسائل وحشية لا تنتمي إلى فنّ الحرب، حيث صورة السابع من تشرين ظلت وستظل بصمة في تاريخ كيان يُدرك أنه مدين لحُلفاء، تأكلهم الأرضة والزمن في سياق تشكل عالمي جديد، إنّ فكرة أنّ الغرب لن يستطيع حماية الاحتلال إلى الأبد وبسط هيمنته الدائمة، هي واحدة من أهم الأفكار المستوحاة من صدام الحضارات لهنتنغتون.
– بالفعل، إنّ غزة نقلت الصراع من الحدود إلى الوجود، ومن النزاع السياسي حول الأرض إلى مواجهة حضارية، يعلق الخبير البريطاني ألستير كروك على موقف رئيس الوزراء الفرنسي السابق دومينيك دوفيلبان، على فكرة الاستغراب التي هيمنت مؤخراً على الغرب، تدور حول فكرة أن هذا الغرب الذي ظل يدير شؤون العالم طوال خمسة قرون، هل سيكون قادراً على الاستمرار في هذه الإدارة بهدوء؟ ويشير ألستر إلى عبارة لدوفيلبان، مفادها أنّ هناك ما يشير إلى أنّ مواجهة ما يحدث اليوم في الشرق الأوسط، يفرض القيام بقتال أكبر فيما يشبه حرباً دينية أو حضارية، وهو ما اعتبره الاستقالة بشكل أكبر عن الساحة الدولية، لقد تعرّى النسيج الأخلاقي الغربي.
في هذا السياق يؤكد ألستر كروك أنّ الأمر نفسه يتعلق بكيان الاحتلال، بل يؤكد على أنّ هناك سوء تقدير وأخطاء يقودها الظن بأنّ حلفاء الاحتلال القدامى من العرب سيغضون الطرف أو القيام بمساعدة الاحتلال على القضاء على المقاومة، هذا شكل مما يسميه مسؤول جهاز الاستخبارات البريطاني السابق واصفاً إياهم في مثل هذه الحالة بالمذنبين بالتمنّي، كما يؤكد أنّ الغرب والاحتلال تحديداً، إن كان يظن أن المستوطنين على الطرف الآخر سيفرضون وضعاً جديداً على كامل الأراضي الفلسطينية، فتلك لن تكون سوى خيال فاقد للتماسك الاستراتيجي والأخلاقي، وفي هذا السياق يقول ألستر إنّ الاحتلال لن يتمكن من إيجاد شركاء فلسطينيين أو حتى حلفاء عالميين، لقد تغير الوضع – حسب الخبير نفسه- في الشرق الأوسط بشكل جذري، وهذه نقطة مهمّة، لأنّ الذي يثيرها اليوم ليس الطبقة الأدنى من المؤثرين في معارك الدعاية السيبرانية، بل هم خبراء دوليون أساسيون في صناعة القرار الدولي، فألستر كروك هو فضلاً عن مسؤوليته في جهاز الاستخبارات البريطاني سابقاً، هو مستشار سابق لخافيير سولانا، والوسيط المنتدب في الوساطة بين الاحتلال وحماس على خلفية تبادل الأسرى، المقترح الذي رفضه أولمرت يومها وايهود باراك، الذي كان يقضي بتحرير شاليط مقابل ألف أسير فلسطيني.
ملامح هذا التغيير الجذري تتجلى في الانتقال من الوضع الذي كان فيه مدار القضية الفلسطينية على التحرر الوطني، إلى وضع جعل من فلسطين اليوم رمزاً لصحوة حضارية واسعة النطاق بعد قرون – وليس سنوات فقط – من الإهانة الإقليمية، وهذا التحول هو نفسه أصاب الاحتلال – هو يسميه بغير إسمه -حيث كانت الصهيو..نية مشروعاً سياسياً علمانياً يهدف تحقيق إسرا..ئيل الكبرى، لكنها اليوم أصبحت مسيانية ونبوئية. ويعزو ألستر كروك المشكلة إلى كوننا مازلنا نتحدث عن غزة بالطريقة القديمة، ومن خلال منظور العقلانية المادية العلمانية. وهذا ما يؤدي إلى استنتاجات خاطئة تقوم على حسابات مادية، مفادها أنّ حماس أضعف من الناحية الموضوعية مقارنة بجيش الدفاع لدى الاحتلال، أي من الناحية العقلانية وجب أن ينتصر الاحتلال لأنه الطرف الأقوى.
يحاول ألستر أن يدافع عن أطروحته حول الشرق الأوسط، وهي ليست بنت اللحظة، بل لها شروط ومقومات فكرية سبق وعبر عنها قبل سنوات، إن انفتاح جبهات أخرى أمر محتمل، حيث تشكل المقاومة هنا شرارة ثورية ستشعل التحول في وعي الشرق الأوسط والجنوب العالمي، بعد أن تكاثر عدد دول الجنوب التي تقطع علاقتها مع الاحتلال.
وعلى الرغم من ذلك، واصل الغرب في نظر ألستر دعم نفسه في صومعة صنعها لنفسه، من خلال رسائل تشير بطريقة ما إلى أن أوروبا كلها تدعم كيان الاحتلال وترفض وقف إطلاق النار ، حيث أيضاً لا حدود ولا شيء من أعمال الاحتلال يخضع للقانون، إن الاحتلال بناء على تصريحات بعض معلقيه، مدفوع فقط بهدف استعادة صورة القوة، إنهم استغنوا عن قاعدة كلاوزفيتز، بأنّ الحرب استمرار للسياسة بطريقة أخرى.
أوروبا التي استلمت زمام المبادرة من واشنطن هي في نظر ألستر تجاوزت مسلمة كلاوزفيتز حين ربطت نفسها دون تحفّظ بالعمليات العسكرية للاحتلال، إنّ الرسائل أحادية الجانب في نظره، لا يمكن أن تكون حلاّ لصراع الحضارات.
العبارة الأهم هنا، أنه خلال عمليات الإبادة، كان مجرد الدعوة إلى وقف إطلاق النار دعوة خطيرة، ومن هنا يقول: “في ظل المناخ الراهن، فإن مجرد الدعوة إلى وقف إطلاق النار يمكن أن يُفقد المرء وظيفته”، بل، ويضيف ألستر، يمكن أن يؤدي هذا الموقف إلى عزل أوروبا عن اللعبة.
هذه هي النقطة الأساسية التي تفسر الموقف الغربي، والسياسة الغربية، بل موقف المثقف الغربي فاقد الشجاعة للتعبير عن ضمير المثقف، بالأحرى الدفاع عن مشروعه أمام هذا الانتهاك النظري الذي سببه انفجار الحدث.
– اختيار التموقع بين منزلتين على أساس لعبة الألفاظ، هو محاولة فاشلة لإخفاء الموقف الغربي المتحيز بل صانع الوضعية المأزومة في الشرق الأوسط، إنّ المثقف الأوروبي الذي يعتبر نفسه صهيو..نياً ولكنه مع حلّ سياسي للقضية، هو في نظري كمن يبتر الاحتراق من مادة كيميائية تلك خاصيتها، بالنسبة لفريدمان، وهو كاتب عمود في “نيويورك تايمز”، هو من هذا الصّنف، يعتقد أن غزو غزة سيكون مكلفاً بالنسبة للاحتلال وواشنطن، حيث سيعرض مصالحهما للخطر، هذا يكفي كرسالة من فريدمان إلى أنّ مصالح الاثنين واحدة في المنطقة.
الحل الذي يقترحه توماس فريدمان منذ سنوات هو تحديث الشرق الأوسط، لنتذكر كيف سخر من صمود الفلسطينيين والصراع على شجرة زيتون بدل السباق على التحديث والتقنية في كتابه “السيارة الليكزس وغصن الزيتون”،والذي ناقشناه إبان صدوره قبل أكثر من عشرين عاماً، حين كان فريدمان يزفّ العولمة كمبشّر، وباعتبارها المخرج المخملي لعالم ينهض على فكرة الإهانة والتمركز في تقدير المصالح، لا أدري كيف يتغاضى أمثال فريدمان عن تضارب المصالح؟لكن الجواب في ما يراه حاسما من أطروحة فوكوياما، لن تنتظر اعترافاً يومئذ بهينتنغتون، حيث سقوط الاتحاد السوفييتي كمؤشر لصراع الثقافات، كانت الحرب الباردة بنزعتها المادية التي تم اختزالها في سباق التسلح، قد أخفت غابة من معالم الحرب الحضارية، لكن فريدمان يذكرنا هنا، أنه أثناء حضور ندوة حول العولمة بالمغرب، سيكون أمام مثقف عربي موصولاً بالفكر الفرنسي، وهو هنا يسجل ملاحظة، قد تكون من ناحية ما صحيحة، أي حينما نتحدث عن مثقف عربي ومتأثر بالثقافة الفرنسية، فلن تنتظر موقفاً إيجابياً، لأن كليهما يناهضان العولمة. وإن كان هذا حكم تبسيطي ومطلق، كان فريدمان يتحدث يومها عن رحلة في فضاء جديد، يومها كان عمر ذلك الفضاء عشر سنوات، يبدأ تاريخه من سقوط سور برلين. يتجاهل فريدمان صبيب مارشال الممتد إلى دول الطوق الأسيوي، ضخ الإسناد المالي، لتطويق الصين، للإمساك بشرايين الهارتلاند والجزيرة العالمية، لكن ما هي وضعية العولمة التي أَنْطقت الاقتصاد عابر للحدود وقمعت السياسة، واستصغرت نضال أمة على شجرة زيتون، حيث التقنية اليوم هي واجهة حرب الإبادة على الإنسان، حين جاوزت التقنية مهمّتها التاريخية وزاحمت الرهان الأنطولوجي. أنّى لفريدمان أن يدرك التجاوز الماهوي للتقنية، في سياق بروباغاندا تُساهم من خلال تحريف السؤال، في عملية نسيان الوجود؟ سيارة ليكزاس وغصن الزيتون، بروباغاندا ليبرالية ضدّ سؤال المقاومة والوجود، يختزل فريدمان مقاربته في مزايدات سياسية، التحذير من التدخل على غرار ما حصل في العراق وأفغانستان، ليس طبعاً لأن الأمر مخالف لمبادئ القانون الدولي، بل فقط لأنّ الأمر مُضرّ بالمصالح، في نظر فريدمان، فشل بايدن في إقناع قادة الاحتلال بالتراجع. بل يرى أن مصالح الدولتين في نظره ستتعرض للضرر إذا ما قام الاحتلال بغزو غزة، دون التعبير بما يكفي عن حلّ الدولتين، ووقف التوسع في المستوطنات في الضفة.
يخشى فريدمان من كلّ هذا على اتفاقيات أوسلو واتفاقيات أبراهام، كتب ذلك فردمان قبل حرب الإبادة التي دامت أكثر من أربعين يوماً، إن مشكلة فريدمان، هي أنّ – أي عملية في غزة ستكون مفيدة لإيران وروسيا- فاستمرار إطلاق صواريخ من جنوب لبنان، من شأنه أن يؤدي إلى حرب بين الولايات المتحدة وروسيا والصين أيضاً.
– الغرب يدرك الأبعاد الكبيرة للحرب، صرح بعض المسؤولين الأمريكيين بمطالبة الاحتلال بعدم فتح الجبهة الشمالية، وذلك لأنهم يدركون أنّ من هذه المغامرة من شأنها أن تفتح حرباً بين واشنطن وبين إيران ويمكن أن تمتد أكثر، المعركة مركّبة، والتنسيق مع محور المقاومة بات أكثر من السّابق. أدركت المقاومة أنّها في عالم ليست بدعاً فيه على صعيد التحالفات، وبأنّها إن خضعت لتأثير ما كان يسميه فريدمان زمن الزهو العولمي بالمعتدلين، فلن تجد سلاحاً ولا طعاماً، ولقد أدركت المقاومة أنّه بعد أكثر من أربعين يوماً، حوصرت غزة من كل جانب، لم تسمع من العرب والعجم سوى تعدد الأصوات. وعلى الرغم من الهروب من حقيقة من هو المسند الميداني للمقاومة، بل ومحاولة إنكار دور محور المقاومة في تعزيز التوازنات، إلاّ أنّ من سيحمي مكتسبات هذا الانتصار هو المحور كلّه، حتى هنا كان الاحتلال أكثر صراحة في الإشارة إلى البيئة الإقليمية الداعمة للمقاومة خلافاً لما تقوم به الدّعاية التي تسعى لعزل قسائم القسام عن سائر الفصائل المنخرطة في المقاومة، أو عزلها عن العمق الاستراتيجي العملاني الذي كان له دور كبير في حماية ظهر المقاومة بالمناورات السياسية والعمليات الاستنوافية وكسر لعبة الاستفراد على مرأى من حاملات الطائرات، من كان يستهين بهذا الدّور ويحاول الالتفاف على الواقع بالأضاليل والتمنّيات، فهو لم يرَ شيئاً، لم يفهم شيئاً، لن يعترف بشيء.
– استكثر كيسنجر بعد قرن من العمر على العرب في برلين أن يعبروا عن رأيهم عبر وقفات مؤيدة للمقاومة، معتبراً أنه كان من الخطأ السماح لكل هؤلاء المنحدرين من ثقافات أخرى وأديان ومفاهيم مختلفة بالدخول إلى ألمانيا، وكان كيسنجر الذي سبق أن أعلن أنه ممن ساهموا في منع أي انتصار عربي على الاحتلال في حرب تشرين، يعتبر عملية طوفان الأقصى بمثابة هجوم على النظام الدولي، كيسنجر الذي نال جائزة نوبل للسلام لأنّه بتعبير آخر نجح في انتزاع اعتراف بالاحتلال، ومنع انتصاراً عربياً في حرب تشرين، ولأنّه أيضاً لم يدنْ الاحتلال على حرب الإبادة، إنّه سلام ممسرح يخفي الإبادة والدم والآلام والنزوح والاحتلال، إنّه المرادف الحقيقي للاعتراف والرضوخ.
– ما هو الخطاب الذي سيحمله الغرب بعد أحداث غزّة؟ هل سيدفع باتجاه العودة بالأمور إلى المربع الكلاسيكي للنّزاع؟ هل يملك أفكاراً متقدّمة لمُعالجة الأزمة في الشرق الأوسط ، مادام أنّه احتكر دور الوسيط، واحتكر اليد العُليا في وضع الموازين والشروط والأفكار؟
كاتب من المغرب