غزّة والمٌثقف السّرنام

تشرين- إدريس هاني:
ثمة سوء فهم كبير، بعد الحدث الكبير، حيث لا صوت يعلو فوق صوت العويل الجنائزي، وحيث العاطفة والأنوسة لا انفكاك بينهما سوى عند من لم يدرك نكتة المشاعر في صميم الاستنتاج، فهي مكوّن أساسي في تشكّل المعرفة «هل أدركوا تجريبية ديفيد هيوم»، وحيث ثمة خيانة عقل مُنتظم، لأنّ العقل النّاظم محاصر بكاطيغورياس خفيّ، حين باتت الفلسفة نفسها خيانة للآغورا، للسعي في السوق، لما كانت اليد الخفية في الاقتصاد السياسي الكلاسيكي بريئة، تساقط الفلاسفة والمثقفون تباعاً كأوراق الخريف، ذلك لأنّ الذين سعوا إلى التماهي مع نيتشه، هم أنفسهم يحلقون شواربهم عند كل حدث يتعلّق بالتحرر، وتحديداً حينما تئنّ فلسطين من تحت الرّماد.
سوء الفهم هنا يتعلق بسؤال الـ«نحن» والغرب، هذه العلاقة القلقة برسم الشروط التي كرستها العلاقة غير الطبيعية بين المركز والهامش، لقد سعينا للتطبيع مع الغرب، لكنه أبى أن يُطبّع معنا، نحن نُطبّع مع المبادئ الكبرى التي جاء بها العهدان الدوليان للحقوق، وهو يشترط علينا في التطبيع معه تطبيعاً مع الاحتلال، مع الإبادة، مع النقيض لتلك المبادئ، التطبيع له إطار خفي، مهما عزف على الوتر الثقافي، هو تطبيع جيوستراتيجي، وجب أن يأخذ هذا المفهوم ترجمته من هناك، بوصفه اعترافاً بالمعنى الكوجيفي الذي يجد أصله في جدل الصراع الأزلي بين السادة والعبيد، هذا هو جوهر ما حاولت أن أحوم حوله في كتابي: حداثة السادة وحداثة العبيد، إن الروح النقدية تنتهي عندما نطلب الحقّ في الاختلاف، تتنكّر الفلسفة بعد أن رُسم لها هامش، فبات الفلاسفة مستضعفين في الأرض، ومن أراد أن يختار وظيفة عبيد المنزل، صُبت فوق رأسه الأضواء، ومن تمنّع، فضّل سكنى المنزلة بين النقيضين، ومن هنا تأتي مفارقة المثقف، أو بتعبير باسكال بونيفاس: المثقفون المزيفون.
إنّني أنبّه قبل أن أذهب بعيداً في هذه الفذلكة، إلى تلك العلاقة، إلى ذلك الرهان، مع الغرب المثقف، لا الغرب صانع عصر قلق، عصر المهانين بتعبير برتراند بادي، إنّ المثقف الغربي لم تعد لديه مساحة حرّة منذ الحرب العالمية الثانية، حين يتعلق الأمر بإسرائيل، إنّ حرب البروباغاندا على العقل السياسي الأوروبي مُهولة، إنّها جزء من الدعاية اليومية التي ترافق الإنسان، وتجعل المثقف عاجزاً عن تدبير موقف منطقي، إنّ علاقتنا مع الغرب كما أتصورها ضمن استراتيجيا «الاستيعابية»، وهي استراتيجية تقوم على التفاعل الخلاق مع الغرب، بوصفنا في لحظة برومثيوسية ثورية، توجب علينا الاشتباك عن قرب مع مخرجات تجربة لا يمكن الاستهانة بها إطلاقاً، ومع أنّني أهجو موقف هابرماس السّيئ جداً من أحداث غزّة، إنما أجد في ذلك فرصة لإعادة التموقف النقدي من مفهوم الفضاء العمومي الذي يقصي صوت الجنوب، صوت من شملتهم لعنة الإقصاء، الحدث بالمعنى الدولوزي هو أيضاً فرصة لمزيد من الكشف عن الاعورار الخفي في النظرية، تلك التي تحتاج إلى اختبار خارجي، التفاعل والاستيعابية تعفيناً من الانتقائية ومن القطيعة المُفرطة، وتضعنا في قلب التفاعل الحضاري: من هنا التبني الحضاري والتجديد الجذري، الشجاعة في الاشتباك بدل الهروب، حوار مستحيل بين الشمال والجنوب في فضاء جيوستراتيجي مُغلق.
أعود لتلك العلاقة القلقة والرهان المبهم بين الغرب وما وراء البحار، والتي جعلت سؤال التقدم والحداثة نفسه مُبهماً، حيث باتت تكلفته باهظة حسب صدام المصالح من جهة، وصدام الثّقافات من جهة أخرى، صدام الحضارات في جوهره ليس صدام التقدم والتّأخر، بل جوهره عنصري، قبل ربع قرن دبجت كتابي عن العرب والغرب بكلمة تغاضيت عنها مراراً، لكنني اصطدم بها بقوة الحدث، وهي: إنّ الحداثة التي باتت مطلباً مؤكداً وناجزاً في حقل البنى التحتية للمجتمعات المذكورة، أصبحت مورد ابتزاز بين الغرب وعالم الجنوب، وسأكون وفياً لتلك الفكرة التي تناولتها قبل ثلاثين عاماً وما زلت أؤكد عليها اليوم، وهي «إذا كان موقفنا يتسم بنوع من الممانعة، فإنّ هذا لا يعني أننا ضد الانفتاح على الغرب مطلقاً»، تناولت فكرة الحوار بين الثقافات يومها، من خلال رفض خيار الانتقاء: «إن الانتقائية المزعومة، انتقائية روحها الشعور بالانهيار المعرفي أمام الغرب، لهذه الحالة النفسية أثر على العملية الانتقائية»، من هناك كانت دعوتي للاستيعابية التي ستقودني حتماً إلى العبر-مناهجية. اعتبرت أن آفة الانتقائية لا تقف عند وضع العقل العربي أمام فوضى وخليط غير متجانس موزع بين أطاريح متدابرة فحسب، بل سيكون طريقاً للتعسف على مناهج الغرب ومناهله أيضاً، وعليه، صرحت يومها بالعبارة التالية: «فالاستيعابية المطلوبة هي مقدمة لإقامة حوار بين الثقافات»، هذه دعوة قديمة آمنت بها قبل عشر سنوات من بروز الخاتمية، وأُذكِّر مرة أخرى قبل أن أمضي في تناول وضعية المثقف الغربي اليوم، بما تناولته قبل ثلاثة عقود أيضاً في بيئة كئيبة غير قارئة ولا منصفة، مع وجود بعض من الثقوب التي رمّمتها بعد طول تأمّل، كتبت

حينها: «نحن أمام غرب مفتتن معرفياً، لكنه جبّار في الإبداع، ثم هو هدّاف إلى السيطرة، الدعوة لا زالت قائمة لاستيعاب الآخر، كشرط للتخاطب معه والتحرر من هيمنته».
نتجنب الحديث عن معضلة النخبة مفهوماً وتنزيلاً في الغرب، منذ باريتو وبوندا إلى مايلز وشامبتر مرورا بغرامشي، حيث نشط التنظير الإيطالي تأسيساً وتفريعاً، ولكنني سأركز على دال روبيرت، حيث تبرز ميزات النخبة عند حدوث الأزمات المتعلقة بالمجتمع، هذا سيساعدنا في الربط بين المثقف والأزمة، ويبدو هنا أنّ نكوص المثقف، وتجليات هذا النكوص الذي يأخذ معاني وأوصافاً كثيرة، كخيانة المثقف ونهايته وزيفه وكذبه.
في الغرب توجد مساحة للتفكير الحرّ، لكن في حدود يفرضها العرف، نحن لسنا أمام كذب صريح تمتثله النخبة الغربية حينما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية، إنّ التفكير ضدّ الغرب نفسه هو مهمة أقل تكلفة من نقد الاحتلال، إنّ نقد تاريخ الإبادة ضدّ الهنود الحمر أقل تكلفة من نقد الإبادة ضدّ الفلسطينيين، والسبب، هو أنّ الشعب الفلسطيني ما زال صامداً، وكلّ الوعود التي كرستها العهود الدولية هي أقل مصداقية من «وعد بلفور»، إنّ العقل السياسي الغربي يستقيل حين يتعلق الأمر بكيان الاحتلال، هنا يختفي العقل والتنوير والفضاء العمومي.
تواطأت البروباغاندا والقانون والشعبوية، لكي تقمع كل سؤال يتعلق بفلسطين، سارتر نفسه تراجع واختار منزلة بين المنزلتين، يفضح ذلك إدوارد سعيد، كما سيفعل عبد الكبير الخطيبي، وجب المُضيّ استغراباً كي نفهم كيف أنّ التاريخ الذي اختصر لدى المتلقي الغربي في مخرجات الحرب العالمية الثانية، وضع أكثرهم تساؤلاً أمام ذلك الغموض الذي لا مناص منه سوى بالتموضع في منزلة بين المنزلتين، في لعبة الألفاظ، في مُسقط الأصنام كما ذكرنا آنفاً، ميشيل أونفري الذي عجز عن التحرر من الباراديغم التّاريخي نفسه، عندبورديو الذي منح السوسيولوجيا ميزة العلم الثوري، ميزة قول الحقيقة، يعجز عن حلّ ذلك اللغز حول علاقة الضحية بضحية الضحية، حين يتعلق الأمر بفلسطين، عن الان فينكيلكروت معلن هزيمة الفكر، كيف يبرر موقف الاحتلال بصلافة؟ هذا لا يحجب مواقف متقدّمة نوعاً ما، ألان غريش، باسكال بونيفاس إلخ.
هذا الشّلل الذي يصيب العقل السياسي الأوروبي، يدفعه إلى منزلة بين المنزلتين في أحسن تقدير، وإلى التحيز المسبق مع الاحتلال، وهو التيار الغالب، يؤكّد على وجود سياقات وأطر تعوق النظرة الواقعية، وتجعل انتهاك المبادئ أقل تكلفة من دفع ضريبة الخروج عن التيار. دولوز يخرق الإجماع المنقول، لأنّه خلافاً لهابرماس، يكفر بدور الإجماع والنقاش بالنسبة لفيلسوف، مهمته صناعة المفاهيم، المهمشون كجون جوني يحتجّ من ممشى تسكّعه ضد الاحتلال، أعني الغرب الآخر، الذي مارس تحرره خارج مجموعة المصالح، خارج رونق الصالونات، في محاضن التّشرد، «تشمكر» لتتحرر، أصبحت أتفهّم لُعبة التمرد والهيبيزم، الإمبريالية تسمح بهذه الاستقالة، شريطة أن تُصبح حالة إكلينيكية أو مُروقاً سوسيولوجياً.
الحدث الذي يكشف عن ازدواجية المعايير، عن عجز مزمن عن قراءة الحدث في سياق يتجاوز مخرجات الحرب العالمية الثانية، حيث الشعب الفلسطيني غير معني بالنازية التي لا تُفارق النزعة التبريرية للمثقف الغربي، إنّها فوبيا النازية التي فاقت الواقع والمتوقع، وباتت باراديغماً تاريخياً لإدانة ما لم يقع بعد، ومثل هذه النزعة الاختزالية القائمة على رُهاب النّازية، تجد لها تنزيلاً بتوزيع موسيقي مختلف في بيئتنا الإقليمية.
الاستغراب، ليس موقفاً من الغرب، بل هو حركة نقدية يتعين أن تدرك مهمّتها التاريخية، إنها في ما آمل منها، حركة استيعاب مباشرة، تحرر الآخر في فهم السياقات والشروط في تاريخ الأفكار، ثقة في الذات ومنحها سلطة التفكير في الذات والآخر خارج لعنة الهيمنة، مساعدة المثقف الغربي نفسه على التحرر من شروط المستحيل التفكير فيه، إن المثقف الغربي إزاء موضوع النازية، والالتباس الكبير الذي يجعله عاجزاً عن قراءة الاحتلال خارج هذا الرُّهاب الذي ولدته البروباغاندا والتربية والفضاء العمومي الموجّه، إنه بالفعل يفكّر في وضعية جيوستراتيجية تدعو للاجتثات، فمعاداة السامية لا تقتصر على الآخر، بل هي الصفة التي نال منها مثقفون يهود نصيباً غير قليل، مثل بونيفاس، إدغار موران وهلم جرا.
آخذ تفكير المثقف الغربي في المساحات التي ندرك أنّها مُتاحة أو مغفول عنها، لكن لا آخذ رأيهم في موضوع الاحتلال إلاّ بتحقيق وتأمّل وحذر، إنّهم في هذا الفضاء المُغلق غير أحرار، ورقابتهم الذّاتية تبلغ ببعضهم حالة الخيانة، وهم كما قال لينين عن المثقف، هو الأكثر قابلية للخيانة وتبريرها، لأنه يمتلك أدوات الزّيف، الصورة النمطية نفسها توجد في بيئتنا العربية، حيث هناك نصيب من هذا التموضع بين منزلتين وأحياناً البحث عن نازيين مفترضين، حيث لم تعد النازية تُعرّف إلاّ بالمحرقة، ولا يُعرَّف الاحتلال إلاّ بها.

من حقّ الجميع أنّ يخشى من جدوى الفضاء العمومي كان سيصبح تدويراً للنّفايات، ويُشوّش على المعنى، ما هو المصير الذي ينتظر المثقف؟ لقد أصيبت مصداقيته في صميم العقلانية والتنوير والأنوسة، إنّ طفلاً تمتشقه القاذفات من مأوى طفولته، لتجعل منه أشلاء ممزعة على مرأى من فضاء عمومي أخرسه هابرماس نفسه، هو اليوم الفيلسوف الذي صنع الحدث وجاوز به سُلطة المقولة، هنا ليست الجغرافيا وحدها – كما ذهب إيف لاكوست- التي تساعد على صناعة الحرب، بل الفلسفة نفسها تصبح وسيلة حرب، حين تسخر مقولاتها لتبرير الإبادة بمُغالطة «اللُّتيّا والتي»، هناك من يدعو إلى أن تصبح الفلسفة مقررة للأطفال بالمدارس، وهذا أمر مُرعب، لأنّنا نتعلم الفلسفة لكي نكون أطفالاً، ونباشر تحدي مُساءلة العالم من دون سلطة المقولة، حتى هذه الفسحة الوحيدة التي نكاد نستقيل بها من الهيمنة المطلقة على الضمير، يُراد لها أنّ تُدجّن، الطفل يقلّد نعم، ولكنه يُقلد من يريد، ومن يوحي به خياله الخلاّق، لو تمتدّ طفولتنا قليلا، لو نفي لها في أعماقنا، نستطيع أن نحتفظ بتلك البراءة التي اختفت من فضائنا العام، ما معنى خيانة المثقف؟ إنّها بكل بساطة، خيانة الطفولة داخل كائنات حاقدة على طفولتها “المُخنّنة” والكئيبة، حيث فشلت في صياغة أمثل علاقة مع الخيال، الطفولة الجبانة تُنتج كهولة جبانة، تمنحنا أنثربولوجيا النخب الكثير من القدرة على فهم سرّ هذه «السّرنمة» (somnambulatoire)، داء ضربة حمار الليل حسب تعبيرنا العرفي، استحمار ليلي إن شئت، من خلاله يقف الساري المستحمر على حافة السقوط وهو في غفلة عن ذلك، يحدث أن يوقظك الإنسان فتضطرب وتسقط، لذا ننتظر حتى يُكمل المُثقف السِّرنام مشواره، ويتحمّل مسؤوليته.

كاتب من المغرب

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار