غزّة في معارك الوعي

تشرين- إدريس هاني:
-نعود إلى الحدث، إنّه كبير، لأنّه مرتبط بشعب مُضام في أمّة تتموضع في بؤرة تضارب المصالح، في عالم خاضع لفنّ الهيمنة، وهذا الفنّ هو من يجعل دولاً كثيرة تتردد في مواقفها القومية، تسعى لإرضاء الأقطاب التي سعت عبر القوة بوجهيها الصُّلب والناعم معاً، لرسم وجهة سياسية للعالم.. إنّ كُلفة الصمود أن تُصبح في المُعجم الجيوستراتيجي الامبريالي مارقاَ، ليس هناك من يتحمّل هذا الوضع، حتى روسيا ما زالت تُناور حتى لا تُصيبها لعنة هذا الوصف، وحتى الصّين، كلّهم يُفكِّرون في حلّ الدولتين، والاحتلال يرفض ذلك.
– حتى الغرب، من خلال رسائل قطبه الأعلى، يواصل انحيازه الطبيعي للاحتلال، لكنه يحتفظ لنتنيا..هو بحساب عسير، لأنّه أعاد الاحتلال إلى وضع النكبة.. إنّ الزمن الضروري للالتفاف على نكبة غزّة، غير واضح في أفق التمادي في الإبادة، ولأنّ نتنيا..هو يدرك أنّه مطلوب بمروقه عند الراعي، فهو يواصل سياسة الأرض المحروقة.. إنّه لا يضغط من أجل الأسرى الذين قُتل عدد كبير منهم في القصف الوحشي، بل يضغط من أجل مستقبله، لأنّ الاحتلال حين يُصبح تحت حكم التيار التوراتي، فهذا يعني انقلاباً على الشّرق والغرب معاً.
– إنّ بيئتنا أطلقت المجال «للحيص بيص»، وثمة تكرار مهول وضرب من التداولية الرعناء، التي تجعل المستقبل أكثر غموضاً من أي وقت مضى.. إنّ ثمة نمطين من الجغرافيا، حسب لاكوست، أحدهما جغرافيا الأستاذ، جغرافيا المدرسة، وهي غارقة في النظرية، وتبدو غير مهمّة، وهناك جغرافية هيئة الأركان، وهي الأخطر، وهي التي تساهم في الحرب، أعتقد أنّ جهلنا بالجغرافيا السياسية، وقواعد الألعاب، وافتقارنا إلى حدس المستقبل في ضوء جدل المفاهيم وتطورها، يجعلنا عاجزين عن التقاط المعنى والإشارة، هذا هو الفرق بيننا وبين الغرب السياسي والأمني، إنّنا ما زلنا عاطفيين، لكن بأي معنى للعاطفة؟ ليس بالمعنى النبيل للعاطفة، بل بمعنى أنّنا إمّا حاقدون أو غافلون.
– أُذكِّر بأنّ النّقاش كان حاداً حول مستويات الصراع بين العرب والاحتلال، وكان الكثيرون غير آبهين بما ذكرناه بتكرار بيداغوجي عبثاً، وهو أنّ التطبيع فاشل على المدى المتوسط على أقصى تقدير، وأنّ سقوطه ذاتيّ له، وأنّ الإقناع بمفاعيل القوة الناعمة حوله فاشل، للزوم السُّقوط للساقط كالمشمشية للمشمش بتعبير ابن سينا، وأنّ سقوط أشكال التطبيع أو ما يشبهه كثيراً أو قليلاً، هو حقيقة لا تتوقف على التحشيد الذي يسبق الحدث، وأنّ التطبيع سيسقطه الاحتلال نفسه باعتباره غير واثق في عمقه بجدوى السّلام، لأنّه توسّعي ومشحون بالرغبة في الإبادة والتهجير.. الاحتلال هو من سيسقط التطبيع مع العالم كما يفعل اليوم في غزّة، وأوضحنا، بجد لا بهزل، أنّ الأمر يتطلب حدثاً واحداً يخرج من الأراضي المحتلة، ليس إلاّ، وهذا ما حدث بالفعل.. إنّ قراءة المشهد بحماسة فاقدة للمنظورية تجعلنا في دوّامة لا نهائية من الهذيان الميديولوجي.
– الحدث يُقرأ في الفعل لا في التلويح، في الميدان لا في الأحجيات وفُرجة من لا عهد لهم بالحرب.. يمكن للحدث أن يستدعي مهرجانات، لكن المهرجانات لا تصنع شيئاً، خصوصاً إذا كان الغرض منها الهروب إلى الأمام، وإعادة تأطير الشّارع بتوافقات حول سُلطة التحشيد وصكوك المرور، وأيضاً إعادة تمثيل النّضال بالمراسلة على الركح.. كل هذا من صميم الزوابع الرملية التي يجلبها الحدث لكنها ليست هي الحدث.
– فعل التضامن الذي تنهض به المُقاومة، هو نابع من تربية ومواقف مبدئية، وأبى الله أن يصدر الشّكر إلاّ من قلوب وفية، تضمنها حجور طابت وطهرت، وأنوف حمية، ونفوس أبية، آثرت مصارع الكرام على طاعة اللئام، يقول المثل الفرنسي: «سيضحك أفضل من يضحك أخيراً» ويقول بليك لوروك وسوينغ: «لا تبع فرو الدب قبل أن تقتله»، ويقول المثل المغربي: «لا تشترِ السمك في البحر»، أعتقد أن كثيراً من هؤلاء لم يقرؤوا «Pif» في طفولتهم.
– لا نستطيع أن نتحدث فقط عن سيرك يضعك أمام تنوع الأصوات في كورال حيواني، هذا الذي نسمّيه تحليلاً سياسياً، بل وجب أن نتحدث عن هذه الفوضى.. جرى نقاش عفوي بيني وبين سائق تاكسي، الغريب أنّه استعمل السلطة الصوتية تماماً كما نجدها على الهواء في فضائيات القصف المعنوي، كان يتحدث، بينما كان همّي دراسة أشكال الإمائيات وبنية الحجّاج وفعل البروباغندا في ذهنية الجمهور، ديكتاتورية الدهماء أشدّ وطأ وتنمّراً، قال لي السائق: أنت ربما لا تفهم، أنا سأشرح لك، قلت له: كلّ الناس أفقه مني جيوستراتيجياً، حتى السّائبة أدركت قيمة الصّمت، وقلت له في نهاية المطاف: للحديث بقية، ابقوا معنا، قال لي: إن شاء الله.

– إنّ التربية على الزّيف تجعل منه زيفاً معقولاً، يُصبح التعاقد على الزيف جادّاً، وتُصبح الحقيقة حالة إكلينيكية، هناك سوق واسعة للزيف، وفي منطق الماركوتينغ لا بد على هامش الأسواق الكبرى أنه توجد أسواق سوداء، وأسواق خردة، وحتى الآن هناك زيف يحمل بصمة الغباء، لأنه استعمل كثيراً، لكنّ مستهلكي الخردة ما زالوا يستعملونه لأنه غير مكلف، إنّها حالة الاستهلاك البليد للبروباغندا.
– يصعب الوثوق بمن يتحدّث لغة الأمّة وهو يجتر لغة الاصطبل الأيديولوجية، يزحف كالحردون بحسابات صغيرة أو ينطوي على تدليس دائم، الأمّة مفهوم أوسع يقتضي عقلاً حرّاً ثلاثي الأبعاد، فالدجل والأممية لا يلتقيان إلاّ في ذهن أبالسة المزابل وسُراق الله.. إنّ حاملي فوانيس البروباغندا لن يفلحوا في أي مهمة تاريخية، وهم من كل الجهات كصحون إبليس تُكسر بعضها.. إنّ القرف هو الأعدل قسمة بين أولاد البقّ، حافظ على ضميرك ولا تُبالٍ، ففي هذا الطريق السّيار ستصادف سواقين سوقة في حالة سكر، قد يتهددون السلامة الطرقية.
– الحدث كبير والسرديات متناطحة، لأنها معركة الوعي الموازية، لن تنتظر من الاحتلال أن يعترف بهزيمته، ومن هزيمته مراهنته على طابور غريب الأطوار، نحن ندرك أنّنا جميعاً حمير في نظره خُلقت ليركبها الشعب إيّاه، لكن هناك فرقاً بين الجحش والنّغل، ومع ذلك مازال هناك تردّ وتخلّف في قراءة الحدث واستيعاب المشهد.. كثر الوقّاتون والمنجمون والسحرة وقلّ الدّيانون وعلماء السياسة، بيئتنا تترنّح، وعينا في طور التهجّي، جماجمنا منفضات تؤثّث فضاء مناسباً لتدخين الأضاليل- الزرقا.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار