في الميلاد الجديد لغزة
تشرين- إدريس هاني:
– وأخيراً دخل جنود الاحتلال إلى مجمع الشفاء في غزّة، معلنين انتصاراً مدوّياً على الأطفال الخدّج.. قتل وأسر في صفوف المدنيين، مزيد من الضغط على المقاومة، وهم يعلمون جميعاً أنّ رضوخ المقاومة معناه الحكم على أمّة بكاملها بالهزيمة، يموت أطفال غزّة لتحيا البشرية، إن قتل الأطفال علامة فارقة في تاريخ الحروب.
– عنتريات جنود الاحتلال في مركب الشفاء، تدخل في التعويض النفسي عن خسارة المعركة، إنّهم غير قادرين على إقناع مستوطنيهم، الكل يفكّر في مغادرة كيان لم يعد مقنعاً لجيل يدرك أنّ مصيره بات محمولاً على كفّ عفريت.
– لا نحتاج إلى تغيير اللهجة والموقف، فالذين يتداركون الأحداث ويغيرون التموضعات هم في غمّ كبير، لكن هناك ما هو جدير بالاهتمام، فما يجري اليوم هو نتاج لمسار طويل، تراكمات كبيرة، ومن كان في مسار الرجعية لا يمكنه أن يستوعب الحدث.
– تأكد أنّ أحداث غزة غيرت الكثير من الحقائق، حتى النظام العربي الرسمي استشعر مخاطر حرب الإبادة، لهذا فتح المجال أكثر لحركات احتجاجية، مؤشرها هو الإيقاع الرفيع لبعض الأجسام التي يؤقت عنفوان حضورها بالإشارات، ويختفي عند مقتضيات السياسة، هذا مؤشر على تحول في النظام الرسمي العربي أكثر منه في تلك الاجسام التي تملك من التمكين ما يكفي لاحتكار لعبة الشارع، يلتقي أقصى التصهيـ..ـن مع أقصى الطائفية الوظيفية، لتسهيل المهمّة على الاحتلال نفسه.
– لكل الذين ما زالوا ينادون بفتح الحدود؟ أين عبقرية من اخترقوا الحدود في عشرية الفوضى، من دون أن يطلبوا فتحها من أحد؟ وللذين لا يتوقفون عن الحديث حول تخلي محور المقاومة عن غزّة، وجب أن يُسألوا: ماذا لو لم يكن المحور؟ وماذا لو تدخل طرف في الحرب المباشرة؟ ألن يقولوا: إنّه تورط وإنها مغامرة وتعقيد للحرب؟ كثيرة هي المعطيات الفاسدة التي تروج بهذا الخصوص، لا شيء منها صحيح، سؤال ما هو صحيح وما ليس صحيحاً، سؤال مؤلم على طول الساحات، دورنا الدعوة إلى التحقيق، شيء نفعله هنا وهناك، ثمة قابلية غريبة لافتراس الخبر الكاذب قبل التحقق منه.
– ثمة ما يفيد بأنّ الطرف الأميركي كان قد أبلغ حزب الله، عبر وسيط «غير مهم ذكر اسمه» بأنّ وجود الجنود الأميركيين في بعض المناطق ليس للحرب إلى جانب جيش الاحتلال، بل بغرض حماية مُركبين نووين أحدهما بديمونا، وذلك لكي لا يقع في يد بعض المتطرفين، بل الخوف من أن يستعمله نتنياهو بصورة ولو تكتيكية لجرّ المنطقة إلى حرب كبرى، من يجهل الرسائل التي تتسرب عند الاقتضاء وما لا يتسرب وما يصح منها كثير، لن يبق للأغراب عن منطق الحرب أي مبرر للكلام.
– «رويترز » هي الأخرى كشفت أنها تخوض حرب التشويش، حين نقلت خبراً زائفاً عن الحديث الذي دار بين قائد الثورة في إيران والمقاومة الفلسطينية، قالت «رويترز»: إن قائد الثورة أبلغ المقاومة بأن إيران ومحور المقاومة لن يدخلوا الحرب ضد الاحتلال، وذلك لأنّ المقاومة لم تنسق أو تخبر أطراف المحور بالعملية، مستشار ثقافي إيراني سخر من خبر «رويترز»، وأشار إلى أنها انحازت للاحتلال في الوقت الذي لم تكشف حتى عن اسم مراسلها الذي سقط في هذه المعركة، ونفت المقاومة الخبر رسمياً، هذا بينما الخبر الصحيح هو أن قائد الثورة الإيرا..نية أثنى على المقاومة وأكد أنّ عملها ذاك كان واجباً، يبدو أنّ الخبر الزائف تناقضي، وهو يلخص «العلف» التضليلي الذي يستهلكه طرفا القابلية للزيف: المتصهـ..ينون والطائـ..فيون معاً، فهو تارة يقول إن إيران هي من وجّه حماس للقيام بعملية «طوفان الأقصى»، وتارة يقول إنهم لا يعلمون بالعملية، وهناك من ذهب به الذهان الطائفي حد القول: الحمد لله الذي جعل النصر خالصاً لهؤلاء دون أولئك، قرف في القول وتفاهة في الحكم، هناك من يعجز عن قراءة الحدث خارج حسابات التربية السّيئة وخارج حسابات الربح والخسارة، هنا نتحدث عن معركة الوعي التي أعلناها منذ عقود، بينما ما زال مرضى التحيزات متشبثين بها تشبث القُراد بآذان الكلاب.
– يصعب على العرب أن يستعيدوا موقف حرب تشرين السبعينية، لكن دولة عربية وحدها إن فكرت في الحرب المباشرة ستجد العرب ضدّها، ماذا لو فكرت سورية في الحرب في وضعيتها الآن، بعد أن تواطأ عليها العرب والعجم؟
– ما زال المثقف الغربي عاجزاً عن التحرر، متى تعلق الأمر بالاحتلال، هنا يبدأ التبرير، الصمت، الهروب، الالتباس، حتى «العنتريون» يفضلون الإقامة بين الأطروحة ونقيضها: ميشيل أونفري مُسقط الأصنام، المتكلم في كلّ الأحداث، ناقض البديهيات والبروباغندا، أين هو؟ ماعدا عبارة مبهمة: أنا صهيـ..ـوني ومناصر للقضية الفلسطينية، من السهولة تقليد نيتشه في المساحات الرخوة، لكن نيتشه هو نيتشه، عصي على التقليد، هنري ليفي نفسه الذي تسكّع في عواصم الربيع العربي، مع أنّنا نبّهنا منذ البداية إلى تفاهة الأدوار التي يلعبها، وحيث لا أذن مصغية يومئذ، يقيم قياساً أجرب بين ما يقع في أوكرانيا وما يقع في غزة، إنّه يساوي بين بوتين والمقاومة، وبين أوكرانيا والاحتلال، كما أن بوتين يحارب في أوكرانيا ظلماً، والمقاومة تحارب الاحتلال ظلماً، بكائيات الـ«BHL» على الشعوب المضطهدة تفضحها غزّة.. أُنصت لأمين معلوف، وإن كان أذكى من الطاهر بنجلون الذي كان أسرع إلى الكشف عن مواقفه، اختار الهروب إلى حيث لا وجود للإبادة لأطفال غزة، للإنسان الذي تسحقه التقنية الموجهة من أيديولوجيا غير آبهة بخطاب الأنسنة الذي يستعمل في لعبة السرد ويغيب في الحدث، هؤلاء على الأقل يجعلوننا نتذكر قيمة المواقف الرائدة للمثقف الحقيقي، جون جونيه في «أربع ساعات في شاتيلا»، جيل دولوز في «كبر ياسر عرفات» في كتابه «Deux régimes de fous»، وآخرون أصدق لهجة في التضامن، حيث الإنسانية ليست «مُلاوغة»، بل تضحية وموقف يتعذر أن يتمثله أفضل تمثيل حجيج الصالونات الرّخوة، الذين يسهل عليهم الاستهتار بالحقيقة، المدمنون على النميمة في الكواليس الواقعية والافتراضية بجبن الشياطين، لا خير يرجى منهم في سائر الأمم.
– يسعى أبو يعرب المرزوقي إلى الجمع بين أحلام اليقظة في مستقبليات غبية بشروط هيغلو-تيمية، وبين حقد تحت- معرفي عجز التحليل النفسي عن فك شيفرته النكدية، ووجود ترياق له، وهو لهذا يتدحرج بين “اللاّمساسية” السامرية حين يتعلق الأمر بمحور المقاومة، وبين التسامح الممسرح حين يتعلق الأمر بمحورين دشّنا التطبيع، فالأولى اعتبرها طليعة الصمود، والثانية سياسة شعرة معاوية، وكأنّ المقاومة في ذروة التحدي هي ممسكة بشعرة، مع أنّ النّار هنا حارقة.
يمنح المحتوى الديني قياساً يجعل فكرة نزول الملائكة بالروح المطلقة في مسروقية هيغلية خادعة حيث يقول: “المعجزات ليست بنزول ملائكة تحارب معنا، بل بتقمص كل مجاهد ومجتهد الروح الملائكية المحققة للمعجزات في التاريخ الفعلي المشهود: الأول يقاتل بكيانه وإيمانه، والثاني يقاتل بفرقانه وفهم قرآنه (جاهدهم به)”.
يعلق المرزوقي الأمل على دورين إقليميين، يبحث لهما عن الأعذار حتى يسقط من التملق على قفاه- من الصعب أن تكون حرّاً حقيقياً وليس على الركح – يترنح بين الانتصار للمقاومة وبين شعرة معاوية التي يكبر من شأنها حين يتعلق الأمر بالباب العالي، ويسخفها حين تصدر عن محو سبق وسماها كامرئ تِلعابة بـ: المو- مانعة، يقول: “بروز دور قطر إعلاميا وتركيا موقفياً مع الحذر من تجنب ما قد يؤدي إلى خسران أهم ثمرة للصمود: إنهاء أسطورة السردية الإسرائيلية أولا ثم خاصة المحافظة على شعرة معاوية مع الغرب لتجنب السيناريو الأخطر”.
إنّ معارك الأمة تدور في بيئة غير متجانسة في السواء العقلي، في الحلم النبيل، في الورع السياسي، الذي يجعل الكذب وجهة نظر وتفكير، تماهٍ مع أيديولوجيا المحتل في سحق الحقيقة.
– غزة محطة أساسية فضحت الكثير من المواقف والمشاعر، ذلك لأنّ الشعب الفلسطيني يأبى إلاّ أن يواصل كفاحه حتى حينما يتغير مزاج بعض منظماته وأحزابه، نتيجة التحديات التي تحيط بهذا الشعب الذي يقع تحت أكبر ظلم في عصرنا الحديث، نقرأ التحول في الوعي والأمزجة ليس في البنية الثقافية السياسية التي ما زالت آبية للتحول، بل في النسق الدلالي العام للقضية والأرض والتّاريخ.. إنّ النظام الدولي يتنكر للإنسانية في غزة، ويتعايش مع الآبارتهايد، ويؤسس لنظام عالمي متصالح جهاراً مع الإبادة الجماعية وقتل الإنسان.
– إن لم تتغير الذهنيات على هامش الأحداث في غزّة، فلن تتغير قط، هناك نمط آخر من المقاومة، مقاومة التغيير، مقاومة يقودها كل من ليس في مصلحتهم أن ينمو وعي الأمة خارج التفاهة التي أدمنها تيار الهزيمة وحماة الدكاكين من العبيد الذين هم أقل من أن يرفعوا لواء التحرر والتحرير.