هل خدعنا هابرماس؟.. غزّة في اليوم العالمي للفلسفة
تشرين- ادريس هاني:
بلغني موقف هابرماس مما يجري في غزّة، بينما كنت أتهيّأ للمشاركة في ندوة حول الفلسفة والسلام العالمي، نظّمها منتدى الفكر والفلسفة بالقاهرة بإشراف رئيسها صديقنا د. بهاء درويش، حيث لم أجد سبيلاً للاشتباك فلسفياً مع سياق ما يجري في غزّة، سوى بالعودة إلى ذلك التّحدّي الذي ما زال يراودني، ألا وهو إخضاع الجغرافيا السياسية إلى السُّؤال (الأنطولوجي).
إنّ القلق الوجودي له جغرافيا يفرضها مفهوم الحيّز، ذلك المفهوم الذي به يتخصص المكان نفسه، إذا ما استحضرنا التمييز الذي انتهى إليه لايبنتز، هذا الامتلاء المُشخّص للمكان، المخرج له من اللاّمعنى إلى التحيّز، ليس هاهنا امتلاء يحيل إلى خبرة ثقافية بالمعنى نفسه للجغرافيا الثقافية، بل يحيلنا إلى خبرة أنطولوجية.
بارك لي الصديق د. مصطفى حجازي هذه المداخلة، واصفاً إياها بالفكر الكاشف، لكنني سأذهب بعيداً حين أذكر رائد سيكولوجيا الإنسان المقهور، حيث حفزني الأمر إلى الحديث عن جيوستراتيجيا الإنسان المقهور أيضاً، إنّ السؤال الأنطولوجي يكشف أكثر مُعضلة الميتافيزقيا الغربية الموسومة نيتشيا بالجبن والنّفاق، وهيدغيريا بنسيان الوجود.
في معرض الرد على تساؤلات المتابعين والأصدقاء، تناولت على نحو سريع ما بلغني عن هابرماس، على أمل أن أحقق في مدى صحته، حيث أعلنت عن أن ذلك إن صحّ سيكون إعلاناً عن فراق فلسفي بيننا، وذلك بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة، يا للمفارقة! وأيضاً بدافع الحدث الكبير في غزّة، وهذا ما سيمنح للحدث بالمعنى الدولوزي سلطة.
لقد تحققت مما صدر عن هابرماس، وكانت تلك سانحة للتأكيد على هذا الانتهاك الكبير الذي قام به هابرماس ضدّ نظريته التّواصلية نفسها، على ما فيها من جيوب قابلة للنّقد، ولأنّها ليست عاصمة للعقل والمعقول من أن تُصبح أداة لتأسيس إجماع ملغوم، ذلك لأنّ التداولية على ما لها وما عليها، تجاوزت كونها تداولية بريئة في مستوى فعل الكلام، فهي ككل الأنساق الثورية أصابها الوهن أمام تدفّق القدرة التقنية الفائقة على الزّيف، كيف يكون إعلام البروباغندا يملك كل هذه القدرة على احتواء الفكر النقدي نفسه، ليصبح هابرماس مجرد «مُلاوغ» بمقتضيات الخطاب الميديولوجي الكلاسيكي لليبرالية المتوحشة بمقاصدها الإمبريالية، هنا أهمية الحدث، وهنا خطورة الإجماع بالمعنى الفلسفي.
سبق وكتبت مقالة عن هابرماس على هامش رفضه جائزة الشيخ زايد، حسب ما جاء في موقع «شبيغل» أونلاين يوم الأحد 2 آذار 2021، ومع أنّنا بحسن النّية، التي هي قاصمة ظهر العرب، لم ندقّق في سبب هذا الرفض الذي اعتبرناه أيضا تزهّداً ووفاء للمبادئ الديمقراطية الإنسانية، حيث جاء رفضه بعد أن قبل الجائزة ثم تراجع عنها، بعد أن تم انتقاده في بعض الصحف، كما لم نكن نقرأ الأمور تحت ضغط نظرية المؤامرة، لنتساءل عن الجهة التي طالبته بالتراجع عن قبول الجائزة؟ لكن ما أثارني هنا، هو أنّ المحتوى نفسه يتكرر لدى كلّ من انضمّ إلى جبهة المدافعين عن الاحتلال، خطاب مشترك صادر من الكابنيت نفسه، بقول يقع تحت شرف الفلسفة، باعتبارها خطاب التضحية والأنوسة الفائقة، إنّ فلسفة «الفلسفة» هو النهوض بالمفاهيم، وأيضا حراستها من الانحطاط في الاستعمال.
أعود إلى كتابات الشّباب، حيث لا توجد حسابات الكبار، حين كتبت «العرب والغرب: أي علاقة، أي رهان»، كنت مهووساً بسؤال الهوية، والمصير، والتموضع الحضاري من غرب حوّل الآغورا إلى محمية، ثم حوّل الفلسفة إلى مُقاولة، بات الإنتاج السوسيولوجي في فترة معينة تحت إشراف المؤسسة الاستعمارية، ثم تحول تحت إشراف الكولونيالية الجديدة، هذا ما سنجده مع هابرماس، التفكير الحر المؤطر بالفضاء العام «الخاص بالفضاء البرجوازي»، وتبني الإجماع التداولي حتى لحظة الإبادة، لنرَ أوّلاً ماذا قال هابرماس: لقد استعمل كلمة اختزالية تعزز المتداول في البروباغندا، بحثاً عن مبادئ مشتركة وجب الاتفاق عليها طبقا لمقرر النظرية التواصلية، ومنها الاتفاق بطريقة غير مباشرة على ما سأسميه بالحق في الاحتلال، الحق في الإبادة، ولكن يمكن تغيير الألفاظ، وعندما نتحدث عن هابرماس، فإنّنا إزاء مفهوم خاص عن اللغة، إنّ تغيير اللغة هنا يعني تغيير فعل الكلام، أجل، لقد اختزل المشكلة في صراع بين الاحتلال وبين «حماس»، حيث وصف أصل المشكلة – وانظروا أنّ هابرماس يعيدنا إلى السببية- في الهجوم الوحشي الذي شنته «حماس» وفي مقابل هذا الوصف، يتحدث عن رد فعل (إسرائيل) على ذلك، إذاً بدأنا نتحدث عن فعل ورد فعل، عن السببية التي تُلغي العلل الأولى التاريخية، القلق الجغرافي.
يخرج هابرماس بموضوعية خادعة ليقول، بأننا أمام آراء متعارضة. إنّ عنف الإبادة لا يظهر جلياً أمام عيني رائد التنوير، لأنّه ما يجب في خضم هذا الاختلاف، ووجهات النظر حول الإبادة، بل كيف يذكرنا بالموقف الإنساني ضد المقاومة الفلسطينية، التي اعتبرها تهديداً لحياة اليهود. فما يجب إزاء كل ذلك حسب هابرماس هو: «بعض المبادئ التي يجب ألا نختلف حولها، وهي تشكل مبادئ أساسية لتضامن مُفكّر فيه ومعقول مع (إسرائيل) واليهود واليهوديات في ألمانيا»، وفي هذا السياق يذكّر بأن ما يسميه المجزرة التي ارتكبتها «حماس»، كانت معززة بنية مُعلنة لإبادة اليهودية، ما أدى إلى انتقام (إسرائيل)، وهو ما بدا له في تصريحه عملاً مبرراً من حيث المبدأ، ومن هنا، يذهب هابرماس إلى القول بأنّنا سننحرف عن الموضوع حينما نعتبر الأعمال الإسرائيلية تعبر عن نيات الإبادة الجماعية، ويوجه أحكاماً استباقية للرأي العام الألماني ومن خلاله إلى الرأي العام الغربي، بأنّ أعمال «إسرائيل» لا تبرر ردود الفعل المُعادية للسامية.
حين يقع فيلسوف له موقعه في الحركة النقدية المعاصرة في التبسيط والبروباغاندا، يصبح السقوط مُضاعفاً، وفعل الكلام أكثر إيلاماً لشعوب ما زالت تعاني الاضطهاد. إن هابرماس يردد مفهوماً ابتكرته الدّعاية لقمع الكلام، وهو القمع الذي يناقض نظريته التواصلية الاجتماعية، ضرورة مُقاومة أوهام العصر التي نازعه بها دولوز، لها (مصداق كبير) في هذه المُغالطة.
لا يعتبر في نظري موقف هابرماس انتهاكاً سافراً لنسقه التواصلي التداولي فحسب، بل هو أيضاً موقف يُعزّز هشاشة البناء التواصلي الذي كاد يختزل فيه صناعة المعرفة، يرى هابرماس أنّ ردة الفعل على ما يسميه تصرفات (إسرائيل) وما نسمّيه حرب الإبادة، أنها مجرد وجهات نظر متعارضة، على الرغم من أنّ صبيب النار هو موجه أكثر من أربعين يوماً حتى كتابة هذه السطور، للأطفال والخدج والمشافي والبنيات التحتية فضلاً عن مستقبل السلام العالمي، ما زلت حائراً؛ كيف يمتلك الفيلسوف الغربي المتواطئ مباشرة أو ضمنياً مع المركزية السياسية الغربية، كل هذه القدرة العبقرية في الحفاظ على الدم البارد تجاه حروب الإبادة؟ هل ذلك راجع إلى البنية العميقة لغرب مارس الإبادة دائماً في مستعمراته بلغة ميتافيزقيا التنوير؟ إن هابرماس يتحدث عن الروح الديمقراطية لجمهورية ألمانيا الاتحادية، التي تقوم على أساس احترام الكرامة الإنسانية، ترتبط في نظره بما سمّاه الثقافة السياسية التي ترى الحياة اليهودية وحق (إسرائيل) في الوجود، وهما عنصران أساسيان يستحقان حماية خاصة، من دون أن نغفل الجرائم الجماعية التي تعرضوا لها في الحقبة النازية. ويرى هابرماس أنّ هذه هي القضية الأساسية فيما يجب أن تكون عليه الحياة السياسية المشتركة.
إن هابرماس يمارس هنا انتهاكاً للثالوث المقوم للغة التواصلية التي أسسها ثم فارقها في نوع من التضليل والمُغالطة، حيث نراه يُماهي بين الاحتلال واليهود في حقهما في الوجود، ثم يزف ما سماه بالجرائم ضدهم في الحقبة النازية، بينما لم يسمّ ولا مرة، ما فعله الاحتلال في غزة بالجرائم، ويضيف هابرماس كلاماً فضفاضاً يهدم به ركن الصدقية والجدية في خطابه، حين قال بأنّ الحقوق الأساسية في الحرية، والسلامة الجسدية، و كذا الحماية من التشهير العنصري، هي جميعاً حقوق غير قابلة للتجزيء وتجري بالتساوي على الجميع، لكن هذا المستوى لم نشهده في ذروة الإبادة الجماعية التي يقوم بها الاحتلال ضدّ شعب أعزل، أليس للمجال العمومي وللنقاش العمومي ضمير وبصيرة وبصر أمام هذه المشاهد الجنائزية؟
هنا ستبدأ قصّتي مع هابرماس، الذي أعطاني فرصة كافية لمزيد من تحليل ظاهرة الجمود والمُغالطة في لغة النّقاش العمومي غير المنتج، في فيلسوف يفكر تحت ضغط البروباغاندا، ويجاريها بوفاء كبير، لقد سقط هابرماس في المجال التحرري، وسقط في التكرار الذي هو العدوّ الأخطر للفلسفة، وهناك سأفتح نقاشاً في العمق مع هابرماس، الفيلسوف الذي قدّم خدمة كبيرة لنتنياهو، مُخالفاً بذلك الإجماع الذي ترجمته الشعوب الأوروبية نفسها، وهو ما كشف عن أنّ ما يقصده هابرماس بالفضاء العمومي هو بالفعل الفضاء البورجوازي فقط، لكنه اليوم تجاوز ذلك أيضاً، إنّه فضاء قوى المصالح، إجماع رواد لُعبة الأمم.
انظم هابرماس إلى مدرسة فرانكفورت كمساعد لأودرنو، وحاول أن يشتغل على رسالة ثانية لولا أن رفض هوركايمر ذلك، معتبراً إياه لا يتوفر على شروط تؤهله بهذا المعنى ليكون ضمن هذا التيار على الرغم من اشتغاله ضمنه، فهو في نظر هوركايمر – والعهدة على الراوي- لم يكن مفكراً اجتماعياً، بل كان فقط «سوسيولوغ»، بالإضافة أنّه لا يلتزم بدياليكتيكية التنوير، قد تفيدنا هذه الملاحظة في فهم هذا الانحطاط المدوّي لهابرماس، الذي يتمثّل التنوير كميتافيزقيا.
ما زالت النظرية التواصلية وعلاقتها بالمصلحة، تنمو بشكل مضطرد، وهي تمنح الإجماع – على علّة تنزيله ومشروطيته- على الإبداع، وسوف يستند هابرماس إلى بيرس في نزعته البراغماتية «التداولية»، كما سيتبنى مثلث كارل أوتو آبل بخصوص أخلاقيات النّقاش، بعناصره الثلاثة: الحقيقة التي تحيل إلى الواقع الخارجي، ما يشير إلى الوظيفة الإدراكية، والصحة المعيارية التي تحيل إلى العلاقة الاجتماعية، وهو ما يشير إلى الوظيفة التفاعلية، والصدقية التي تحيل إلى الذّاتية، وهو ما يشير إلى الوظيفة التعبيرية، يذهب هابرماس إلى أن هذه هي قوائم ومستويات التوافق التي تعزز العيش المشترك.
الفعل التواصلي وفق الاستراتيجية المرتكزة على سحرية اللغة التي تُنشىء التفاهمات، هو ما تبقى في عالم فقد مرجعياته. العبارة المُغرية التي لفتت انتباه الجميع وانتباهنا أيضاً، لكنها تُخفي الكثير. فاللغة التداولية بما أنّها فعل الكلام، حين يفسد الاجتماع، وحين يصبح مصدرها مركزية ضخ العالم بالمعنى، ستفضي بنا إلى تداولية مركزية، في خطاب عمودي يفرض سلطة التداول نفسه، تلك العلاقة بين الإمبريالية واللّغة، سلطة الفضاء العمومي نفسه، حتى وإن تعددت اللغات بإقرار من «يونسكو»، إلاّ أنّنا نتحدث اللغة الواحدة، لغة الرموز، لغة الاقتصاد السياسي للمعرفة، هل يوجد إذاً تفاهمات، هل يوجد إجماع حقيقي؟
سينازع ليوتار هذا الهاجس التوافقي التداولي الخادع، سيراهن على ما هو أهم ألا وهو الإبداع، والإبداع يقوم على الاختلاف لا على الإجماع. لقد تمكنّ (دوروز) في خرق الأيديولوجيا التواصلية، وذلك باعتبار أنّنا في نهاية المطاف لسنا في حاجة إلى التواصل، فهذا الأخير موجود على كل حال، إننا نتواصل، ولكن المطلوب هو إبداع المفاهيم.
فكرة الحدث، كما هي عند جيل (دولوز) ، تتجاوز مفهوم التواصل، وهي هنا تحديداً مهمّة لقراءة الواقع، إنّ الحدث يتجاوزنا، وهو بالفعل يفاجئنا ويدعونا لإعادة تشكيل العالم والمفاهيم بما أنها أحداث فلسفية أيضاً، إنّ حدث غزّة بهذا المعنى الدولوزي للحدث (évènement)، أي الحدث بما هو حدث في حدّ ذاته، ميتافيزقيا الحدث.
يخشى هابرماس من أن يتجاوزنا حدث غزّة، وبما يحيل به الحدث وما يترتب عنه من إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية لمفاهيم تقع خلف الطنين اليومي للتداول التواصلي، أعني حقيقة أن الصراع، هو تواصلي بشكل آخر، بالعنف التواصلي إن شئت، تواصل الحرية والقهر، تواصل السادة والعبيد: حداثة السادة وحداثة العبيد، تلك التي جعلت (تولستور) راوي الحرب والسلم، يرى أنّ لغز التناقض الذي وحده يمنح التاريخ ميزة تحليله، مع أنّني أعتقد أنّ السؤال الأنطولوجي المستبعد، هو الذي يجب أن يحظى بهذه الميزة، صراع يقتضي الاعتراف والإخضاع وفق المنظور الهيغلي- الكوجيفي، وليس التفاهم المؤسس للعيش المشترك، تمنح مدرسة فرانكفورت للمقاربة الدياليكتيكية أهمية في الاجتماع والمفاهيم، هل يا ترى يوجد عيش مشترك في اجتماع طبقي، في مسرح دولي قائم على علاقة بين الغالب والمُهانين بتعبير برتراند بادي؟ هل يمكن أن نتحدث عن عيش مشترك وتساوي في قيم الكرامة في عالم فقد السواء؟ هابرماس يرى أن لا قيمة بقيت غير التواصل بعد أن فقد العالم مرجعياته، إنها بتعبير آخر، نوع من العمائية التي ستحلها التداولية بانتهاك ثالوثها عبر لعبة الأمم ولعبة اللغة، لكنه حين اصطدم بالحدث الكبير في غزة، أحالنا إلى مرجعية نظرية، بينما فضل أن يُخضع آثار الجريمة إلى نقاش عمومي، يُفضل أنّ تُصبح حرب الإبادة وجهة نظر في متاهة الفضاء العمومي بالمعنى الأكثر خصوصية لهذا المجال، في زمن الهيمنة على الجغرافيا السياسية وعلى اللّغة وثروة الأمم، ومع ذلك، إن صمته لأكثر من شهر على الإبادة الجماعية، يؤكد أنّه غير وفيّ للنقاش العمومي، فهو ينتهك حرية القول، حرية النقاش في صميم المبادئ التي اعتبرها مجال اتفاق، إنّ هابرماس خدعنا، لم تترك له غزّة مجالاً للدفاع عن ثالوث الحالة المثالية للكلام والنقاش الأخلاقي، إنّه تكلم من فوق، ثم اختفى.
كاتب من المغرب