انتصارات في غياب الرُّشد الإقليمي
تشرين- إدريس هاني:
– الرُّشد هنا منظور إليه من زاوية علم السياسة، ونظرة أخرى من باب علم النّفس المرضي للحواضن الأيديولوجية العاجزة عن التحرر العميق: شعارات تحررية وثقافة رجعية، دخلنا مرحلة التعقيد، وما زال الوفاء لمخرجات جيل كاملة من التربية على التجذيف، لكن عند اللُّقيا، وما أدراك ما اللُّقيا، نكتفي بالمجاملة والكذب والنفاق الاستراتيجي، لم تقم ثورة بعدُ في الأعماق المُلوّثة، ومن هنا الازدواجية والتناقض وغياب الرُّشد.
– ما بعد «طوفان الأقصى» لن يكون مثل ما قبله على صعيد التأثير الجيوسياسي العالمي، هذا ما بدأنا به توصيف الحدث في يومياته الأولى، يجب أن نبحث عمن يزكّي هذا الكلام من شواهد الآخر، «فورين أفيرز» أكدت يوم الخميس الماضي الفكرة ذاتها بعد مرور أكثر من شهر على المعركة، وذلك من خلال أحد كتّابها ستيفان وول، اليوم تتحدث استطلاعات الرأي عن أنّ 63 في المئة من الأميركيين غير موافقين على سياسة بايدن تجاه ما يحدث في غزة، وهناك تهديد من الناخب الأميركي بتصويت عقابي، هذا بينما وقّع 750 صحفياً، حسب «واشنطن بوست»، رسالة فيها إدانة للاحتلال ونقد لوسائل الإعلام الغربية في تغطيتها للحرب على غزّة.
– حتى لو كان الاحتلال دولة طبيعية بالمفهوم السياسي وليس احتلالاً، فإنّ خرقه قواعد الحرب والقانون الدولي الإنساني يفرض على المجتمع الدولي إدانته واعتباره مارقاً، فكيف وهو احتلال.. إنّ القانون الدّولي بات شكلاً من القوة الناعمة للامبريالية، وكذبة تفضحها السياسة الدّولية، لكنه لا يحقق شيئاً بقدر ما تحققه السياسات، اليوم الحرب العالمية هي على السيادات.
– مازال الكثير من الطيبين يؤمنون بالقانون الدولي، أو بالأحرى سياسات الدّول في تأويله والتفلت من العقاب، وثمة قانون وحيد بالنسبة للشعوب- ودّوا لو يلتفون عليه- أي حق تقرير المصير ومناهضة الاستعمار، وحتى هذا الحقّ تؤكّده المقاومة على الأرض، وفي حال القضية الفلسطينية، هي قضية غير ملتبسة، واضحة، كالمحجة البيضاء، ومن هنا منحوا الاحتلال حقّ قتل الأطفال كوسيلة لإخضاع ذوي الحقّ الأبلج.
المُتابعة اليومية لخطاب طائفي مُمَحَّن يورث العما، حتى إنّه لا يرى حوادث الاشتباك وإلهاء الاحتلال بشكل من الأشكال، كل هذا يؤكد أنّ التّفاهة هي نفسها تُقاوم، فبأي إله وجب القسم بأنّ اليد كانت دائماً مبسوطة؟ لم أعد أفهم أنّ الأمر يتعلق بالجهل أو الكراهية، ذلك لأنّ ما نراه هو عمل ممنهج في سبيل حراسة الجهل وتعزيزه داخل الرأي العام، كما أنه ليس كراهية، لأنّ البعض في موارد المجاملة يكشف عن أسارير ماكرة، وبوح في التسامح تخرّ له الجبال سُجّداً، وجب التأكيد أنّه، وبقرار سياسي، سيُطلق سراح العقل العربي من سجن الطائفية المقيت، لله ذر السيد شرف الدين، في مقولته التّاريخية: هذه الأمّة فرقت بينها السياسة، فلتجمع بينها السياسة، حينما تختلف الأمم، وتلك سنّة الأمم المتخلّفة، يُصبح الشعار تجاه المُغالطة والبُهتان: دعه يمرّ، والأسوأ من هذا أنّ الفُرقة والنزاع يغيّران المفاهيم وأجهزة الاستقبال، نتحدث عن تاريخ، عن وثيقة، لكن عند الاختبار تُصبح القلوب هواء، العقول هواء، وتدور الدائرة، وسيجدون عدوّاً آخر يذيقهم من كأس المُغالطات نفسها، أمّة لم تنضج، وما زالت «تتعنتر» فيما لا ينبغي التعنتر فيه.
– لمن يُمجدون القياس، انظروا كيف يبدو أنّه كالرجز لدى الشعراء، كحِمار خُبراء السياسة، يركبونه حتى يقف في العقبة، صورة هذا القياس كالتالي: المقدمة الأولى كيت، والثانية: كيت، إذاً النتيجة القطعية: كيت وكيت، تصبح القضية منطقية متى ما صاحبها التكرار والوقاحة.
إنّنا في الأحداث الكبرى، لا نخشى على العقل العملي فحسب، بل نخشى على العقل النظري أيضاً، على الدماغ، كي لا تحدث فيه رضّات جهل، تعود به إلى بنية ما قبل الـ(Hostralopiteque)
– بدأ خطاب المسؤولين الغربيين يتطور باتجاه الهدنة، وزير الخارجية الأميركي يقول إنّ قتل الأطفال بلغ حداً يقتضي التحرك، يبدو أنّهم يتحدثون عن حدّ لمقتل الأطفال: «كثّر خيرهم»، هل جاؤوا بأساطيلهم لكي يحيطوا المنطقة بسلسلة من الرعب، حتى يكمل الاحتلال مهمة قتل الأطفال؟ هل المطلب اليوم هو العودة لإقرار حلّ الدولتين؟ فهذا الحل بات «زابوراً» يحفظه الجميع، الغرب وحتى العرب، والذي ينتهكه هو الاحتلال نفسه، هناك محاولة للهدنة، لكن لا أحد يريد أن يعترف بأنّ المُقاومة هي من فرض هذا الوضع، كما أنّ هناك من لا يريد أن يُصدّق أنّ المقاومة الفلسطينية هي المبادر إلى فكّ الحصار عن شعبها.. إنّ خلط الأوراق، وتلويث الوعي بفاسد الأطاريح الكيدية، لن يُغيّرا شيئاً في الواقع، والفضل في هذه المعركة الكبرى يعود للشعب الفلس.طـ.ـيني، وحده يحترق تحت سمع العالم وبصره.
– لم يُسعف إدغار موران نفسه فكره التركيبي لتجاوز التضليل، لقد هاله ما قامت به المقاومة ضد المدنيين، يقصد المستوطنين، وسقط في اختزال الصراع بين طرفين، ونسيّ الشعب المكافح الذي يبتكر طلائعه ولحظاته التاريخية، ألم أقل إنّ الاحتلال يُذهب المروءة الفكرية ويخرم التحليل والتفكيك، لقد دعا القيادة الفرنسية إلى التدخل، وقدّم مواقف جيدة للقضية الفلسط..ينية وأدان الاحتلال، لكنه عالج المعضلة في ثنائية القضية الفلسط..ينية والمسألة اليهودية، ثُنائية صنعها «وعد بلفور»، والجميل حين اعتبر نفسه مواطناً حيث هو لا حيث كيان الاحتلال، وفي تتبع منحنى الفكر النقدي نلاحظ أنّنا كلما اقتربنا من فلسط..ين، تكبو أفراس العقل الغربي.
كاتب من المغرب