إبّان بحثه عن الخلاص: جولة الشجنِ بين الثقافات القديمة!
تشرين- حنان علي:
«لو أردتَ بناء جدران حولك لتردع الحزن، فاعلم أن الجدران ذاتها ستمنع السعادة من الوصول إليك».. لعل (جيم رون)، مدرب التنمية البشرية الأمريكي لم يختبر الأحزان المخصصة لنا، نحن قاطني البقاع المنكوبة من العالم، ولم يع كمّ الجدران المتصدعة عبر الأزمنة سواء أكنا من بنيناها أم لا! فإن حاولنا انتزاع السعادة من أعماقنا، استجابة لنصيحة أرسطو، ألن يسهل خداعنا، نحن من نستعجل الأمل فوق أرض لا تنفك الضربات تصفعها، تولد دموعاً لا ترقأ وفجيعة يطول حدادها؟ أترانا سنعثر على شمس (طاغور) داخلنا؟ أو نتبع نصيحة الشاعر (مارك توين) بإطلاق قهقهة لتقوية روحنا الحزينة؟ أم علينا أن ندع «أنفسنا مطمئنين بأعين مغمضة»، وفق (زوربا كازانتزاكيس)، « فلا نلمح بؤسنا»؟
الشجن واحد في الأفئدة منذ الأزل، أما تاريخياً فتعود جذور تعريفه إلى الحضارات القديمة، وأستهل أبرزها بـ(أبقراط) حين عزا الكآبة في الثقافة اليونانية المبكرة إلى اختلال التوازن في الأخلاط الجسدية الأربعة، بينما اتبع شعبه سبل الفلسفة «الرواقية» التي أنشأها الفيلسوفُ اليونانيُ (زينون السيشومي) في أثينا في بدايات القرن الثالث قبل الميلاد، عبر ضبط النفس والعقلانية والبعد عن التطرف العاطفي، لكن اليونانيين لم يكتفوا بالفلسفة فحسب، بل اتبعوا نهج الفن والأدب لإلهام الروح والارتقاء بها، حالهم حال الرومان القدماء مع الحزن وأسبابه العائدة إلى الافتقار للهدف أو المعنى في حياة المرء، بينما جعل مفتاح التغلب عليه بأيادي العمل أو الأسرة أو الدين. كما اعتمدوا إلى حدّ كبير على قوة التمارين البدنية والرياضة لتحسين الحالة المزاجية والصحة العقلية، وكثيراً ما أقاموا ألعاباً ومسابقات عامة كشكل من أشكال الترفيه والترابط الاجتماعي.
المصريون القدماء، أيقنوا بدورهم قدرة الموسيقا والرقص على رفع الروح المعنوية، مقيمين المهرجانات والاحتفالات، إضافة إلى اعتمادهم سبل العلاج الدوائي من خلال النظام الغذائي والعلاجات العشبية، إضافة إلى ممارسة الرياضة والطقوس الروحية لزرع التفاؤل والأمل.. أستحضر هنا مقولة (بتاح حُتب) الحكيم والوزير المصري أواخر القرن الخامس والعشرين قبل الميلاد: (الظلم موجود بوفرة، ولكن لا يمكن للشر مطلقاً أن ينجح على المدى الطويل)..
أما الثقافات القديمة في بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين وشبه الجزيرة العربية، فقد اتكؤوا على الممارسات الدينية من طقوس وصلوات لطلب الراحة والإرشاد، إضافة إلى التماس العزاء والدعم والتعاطف من أحبائهم، وأسرهم أو مجتمعاتهم، إضافة إلى الانخراط في الأنشطة الثقافية السائدة آنذاك مثل الموسيقا والشعر والرقص ورواية القصص كأشكال من التنفيس والإلهاء عن أحزانهم، بمعاونة مع العلاجات العشبية والطبيعية ابتغاء للشفاء العاطفي. أذكر بعضاً من النص الأكادي القديم المرشد إلى سعادة الإنسان البابلي بالقول: «أعطِ الطعام للشخص ليأكل والبيرة ليشرب، جُدْ بما يطلب منك وتعامل بشرف. بهذه الأفعال تُسرُّ الآلهة ويفرح الإله شمش، وسوف يكافئ الإنسان بالإحسان، اعمل الأشياء الجيدة، وستكون أيامك مفعمة بالسعادة».
أما الحزن عند الصينيين القدماء فسببه انقطاع تدفق الطاقة عبر الجسم والعقل، لذلك مارسوا شكلاً من أشكال «الطب الصيني التقليدي»، الذي يتضمن موازنة طاقة الجسم من خلال الوخز بالإبر والعلاجات العشبية وغيرها، وكثيراً ما مارسوا أشكالاً من التأمل والفنون القتالية كوسيلة لتنمية السلام الداخلي والتوازن، وما لبث (نقص الوعي الروحي أو الاتصال بالإله) يجلب الحزن وفق معتقدات الهنود القدماء، لذلك ركزوا على أهمية التأمل والصلاة والإخلاص للآلهة كوسيلة لتحقيق التنوير عبر قوة اليوغا والممارسات البدنية الأخرى لتحسين الصحة العقلية والجسدية للفرد.
بعيداً عن العلاجات الطبية العلمية للكآبة في العصر الحديث، ما فتئت وسائل معاصرة غريبة حول العالم يتبعها الكثيرون للتغلب على الحزن، أبرزها العلاج بالحيوانات كتربية القطط والكلاب والحيوانات الزاحفة، أو التشافي بالنباتات كاستخدام الخُضْرة والعصائر النباتية والزيوت العطرية.. أما الضحك الهستيري فقد وجد لنفسه راغبين كثراً، بدوره العلاج بالضوء الساطع والاستحمام بالصوت عبر تشغيل موسيقا الأمواج الصوتية كوسيلة للتهدئة والاسترخاء.
تقول الحكمة الصينية «في صراع الماء مع الصخر، يفوز الماء بمرور الوقت» وأنتهي بعبارة الشاعر الفرنسي جوستاف فلوبير، «الحزن يمكن أن يصنع أشياء رائعة، ولكنه لا يمكن أن يبتكر جديداً».