وعيُّ الحرب وتاريخها

تشرين – إدريس هاني:
– لا نحتاج للتذكير بأنّ فعل التحرر الوطني يستند إلى الشّرعية القانونية والمشروعية التّاريخية، من يريد إعادة النقاش في هذا الحق، فإنه يسعى إلى فتح النقاش في أصل الوجود، وكل حديث في أصل الوجود يجنح للبرهنة، هو ما يمكن أن نسميه بمغالطة البرهنة نفسها، حين نُقحم البرهان المنطقي في بديهة، فتلك هي أسوأ المغالطات في تاريخ المنطق، حين نحاول أن نبرهن على ما هو مشهود ولا يحتاج إلى واسطة في الثبوت والإثبات، نكون جزءاً من لعبة الاحتلال نفسه، ذلك الذي يعمل بوسائل شتّى على إعادة النقاش في الحق في التحرر، في واقع الأشياء.
– في الحديث عن دفاع الاحتلال عن نفسه، ندخل تاريخاً جديداً من الزيف، ننتهك فيه بأثر رجعي حقّنا التاريخي في الاستقلال، هذا وقد كانت بروباغندا الاستعمار تتهم الوطنيين بأنهم معتدون، إرهابيون، بينما مؤسسة الاستعمار كانت دائماً ترى نفسها في حالة دفاع عن نفسها، ويُشبه ذلك فعل الغزو الذي يُتبع بخطاب الدفاع عن المصالح القومية، إنّه انقلاب المعايير الذي يربك النظام الدولي، ويجعله عاجزاً عن تجاوز القوة التفسيرية التقليدية للغرب الغازي.
-ما زالت الوليمة مفتوحة، والاحتلال لم يشبع من قتل الأطفال، إنّنا نشهد أكبر محرقة في تاريخنا المعاصر، وفي المقابل هناك تنديد من شعوب ودول، تنديد فقط، زعيق فقط، والنّظام الدولي، بعد منح فرصة كاملة للاحتلال لكي يحوّل غزة إلى رماد، بدأ الحديث عن إيقاف التصعيد بين الطرفين، مرة أخرى مُغالطة التّسوية بين محتل وشعب تحت الاحتلال، أي عُرف أو شِرعة دولية تقول بالتسوية؟ إنّ عالمنا تقهقر بما فيه الكفاية إلى ما قبل عصبة الأمم.
-لا يمكن أن تكون الذّات خالصة في قبول الواقع، فالخوف من الواقع عادة لدى من يعجزون عن رؤية «نومين» الأشياء وظواهرها على السواء، العماء سيرة سهلة لمن يعيشون في الواقع بذهنية اللاّواقع، ليت واقعهم المفترض كان مقنعاً حتى للخيال، ليس فقط العقل ما يتطلب حسن النية، بل حتى الخيال، إذا لم تتحقق النية الحسنة يكون أسوأ خيال.
-خطاب السيد حسن كان حاسماً، لقد تضمن كل الرسائل التي يجب أن يحملها خطاب من خبر الميدان، ومتلقٍ على قدرٍ من الذكاء يفوق القابلية للكيد، خطاب من يفكر برؤية جيواستراتيجية وليس بعلم كلام الأزقة.. لقد تابع قادة العالم ذلك الخطاب بإمعان، وقرؤوا ما بين السطور، ولم يعد للعوام سوى أن يسألوا أهل الذكر إن كانوا لا يعلمون، ولم يكن صاحب الخطاب مسؤولاً عن الجهل البسيط أو حتى الجهل المركّب أو جاهلية التّأويل المغرض، لكن الرسالة وصلت، وهي تتحدث عن معادلة حربية كاملة الأركان، تمتد من بحر العرب إلى باب المندب إلى مضيق هرمز، إلى شمال فلسطين، إلى الداخل الفلسطيني، إلى الجولان.
-أكد الخطاب أنّ هناك استقلالية بالقرار التفصيلي بين قوى المقاومة، وفي الوقت نفسه يعترف بأنّ إخفاء القرار ضرورة تعارفَ عليها أطراف الممانعة، شيء يجهله الكثيرون، لكن لا أحد يُخطِّئ توقيت المعركة ومقاصدها، لقد حاول الاحتلال أن يدق إسفينا في نعش القضية الفلسطينية، وكان لا بدّ أن تستجيب المقاومة، لا تتحدد قرارات الحرب بانتظارات من لا عهد لهم بالحرب وفنونها، وتحت الحماسة نفسها عبّر عطوان كعادته عن خيبة أمل، لأنّه ككثيرين على امتداد العالم العربي يحسبون كلّ شيء إلاّ حساب ما يجب قوله حين يرتبط الأمر بفن الحرب، هذا فنٌّ يتطلب استيعاباً «لسن تزو وكلاوزفيتش»، والعلاقات الدّولية من منظور توازن القوى وليس العلاقات الدولية من منظور الهواة، لماذا دائماً يسقطون في الامتحان، ودائماً يعودون، بعد سنوات من الهدر، إلى ما ذكّرناهم به عبثاً.
– من يرد التلويح بمنظور العلاقات الدولية عليه بالواقعية الكاملة، وعدم انتهاك مقولاتها، بعض أدعياء التحليل السياسي يزعمون توفرهم على خبرات كبيرة وقدرة استشرافية مهولة، يخاطبون عوام الناس ويستأسدون عليهم بخبرات وهمية، بعضهم أدمن على إقحام إيران في كلّ حدث، حتى لو كان في جزيرة واق واق «هكذا بالقلقلة كما حدثني مازحاً ذات مرة صديقي المرحوم مفتي الديار الأسترالية المقاوم الشيخ تاج الدين الهلالي»، إنه تبييت ومرض وضحالة، وكل ما يمكن أن تصف به دجّالاً يزحف على بطنه كالأفعى الرّقطاء.
– أثبتت التجارب أنّ أدواء الأمّة كثيرة، وواحدة منها الطائفية التي لم تبرح لحظة من لحظاتها، بما فيها اللحظات الحرجة، تؤكد التجارب أن لا شفاء من هذا الداء العضال، لاسيما حين تكون القلوب قد بلغت حافة الانسداد الأعظم، الطائفية لها أكثر من عنوان: الصمت حيال الحقيقة، تبادل أدوار التجديف، التكلف في التّأويل، نكران الواقع، العماء والانتقاء، التّلوّي في الإنصاف، العناد في الالتباس، التّآمر، التبرير المفتوح، وهلّم جرّا.

– القضية الفلسطينية في خطاب أهل النُّهى وحتى عند خطاب الدكاكين المتمسرحة على ركح دماء وأشلاء المعذبين في الأرض، هي قضية الأحرار في العالم، لكن عند التنزيل تتدكّن وتُصبح قضية محصورة لدى البعض، كأنّ الأمة باتت عقيمة عن إنتاج وجوه جديدة، ترخي الأمل على الدِّيار، وتؤكد أنّ القضية واسعة بسعة رحمة الله.
– هناك دول محيطة بفلسطين، بعضها في المعمعان منذ سنوات، وبعضها صديق للاحتلال، لماذا يا ترى لم تنطلق مسيرات لفك الحصار الإنساني من قوى المجتمع المدني؟ هذا أضعف الإيمان.
– لا أحد اليوم يملك أن يلوم محور الممانعة، مع أنّه هو الحاضر في الميدان، فهذا المحور شغلوه بمواجهة الإرهاب أكثر من عشر سنوات، وخرّبوا بذلك دولاً، بل هذا المحور دخل حرباً بأساليب جديدة فقط لأنّه رفض التخلي عن المقاومة، السؤال اليوم، لا سيما لمن يسأل أو يرفع شعار: افتحوا لنا الحدود، أليس طوال العشرية الدامية كان هؤلاء يعرفون من أين يخترقون الأوطان وينشئون جيوشاً للخراب، ولا يحتاجون إلى فتح الحدود رسمياً؟ أين هؤلاء المجاهدون وجيشهم العرمرم؟ أين طلاّب الحور العين الذين جُبلوا على التنكر لفلسطين؟ نريدهم اليوم وبإلحاح في فلسطين، إنهم صامتون صمت أهل القبور، «طوفان الأقصى» صحّحت المسار، وهناك من يريد عبر فاسد التأويل أن يستعيد تاريخاً من الخطأ، ألم نقل منذ زمان إنّ الاختبار الأعظم لكل حراك هو فلسطين؟
– الكل يحسب، ولا أحد لا يحسب، فعندما يكون حسابك «أرتميتيكيا» وحساب الآخرين غير بريء، نصبح أمام مزاج عُدواني ومقاربات ضحلة وأحجيات لا تغير من الواقع شيئاً.. إنّ خشيتي ليس على من سيربح المعركة في الميدان، بل خشيتي من تدهور الوعي واستبداد العزّة بالإثم، ورهن الأمّة لأعطاب القراءات الكيدية.
– لقد تركنا وترك الرأي العام لتهريج مفتوح، لمؤثرين ونجوم شاشة ينشرون الجهل والكآبة وحشيش المغالطة، ويجعلون منا أضحوكة العالم.. متى يا ترى يغلق هذا المارستان؟ متى تتوقف آراء تريكت لافوار؟ إن السخرية من العقل لم تعد اليوم بحاجة إلى مهارات، حتى الكوميديا لم تعد تنتزع ابتسامات، لقد هيمّن التافهون على سوق الميديا السوداء، وبات التحليل السياسي “فندقاً” ومرعى لرعاة الماعز ومزرعة للحلزون.
– للاحتلال خطط تمسّ العقل العربي نفسه، تتمدّد في جغرافيا الأرض والأذهان، توجد لها آثار وشذرات فيما نعلم وما لا نعلم، وعي مخترق وسياسات مُخترقة، أمّة حوّلت دينها وسياستها وإعلامها إلى وسيلة نفث السّم، ستموت بسُمِّها عاجلاً أم آجلاً.. إنّ الانتهازية تدعو إلى الجمود وتكره الانفتاح، والوعي المثقوب يقبل بوجود المُشترك بين داعية معبد مزيف وصاحب خمّارة، يلتقون عند مفاهيم كثيرة ومخرجات كثيرة، يختلفون في الشكل ويتفقون في الجوهر ويتعانقون فوق مشترك الهزيمة، هنا وجب دق ناقوس الخطر.
– ومع ذلك، يقودنا التّفاؤل إلى أنّ سُنن التّاريخ أصلب عوداً من رغبات المدلّسين، نملة في سياق تاريخي حافل بمحارقه وتناقضاته، كالموج المتلاطم يستقر عند سفح الجبل بعد أن يسقط كلّ ما هو عالق على الصخر، الحركة الجوهرية للحقيقة تغيّر الأَعراض.
– الانقسام حول الموقف من جريمة الحرب ضد غزّة يخترق الأجنحة المتبارية داخل الغرب، ومهما حاول الاحتلال أن يمسخ الضمير العالمي، يظل هناك نبض يصعب استئصاله، الاحتلال في وضعية تاريخية حرجة.
– إنّ الاحتلال ينطوي على جوهر في حالة انقلاب، ومع أنّ مُختارنا فلسفياً أنّ لا انقلاب في الماهيات، على الأقل الماهية الإنسانية، إلاّ أنّنا نؤكد أنّ الاحتلال أكَّد خلال عشرات السنين، أنه وحش خارج الماهية الإنسانية، هو مصاص دماء غير آبهٍ لعرف بني البشر، هو نفسه يمنح المقاومة شرعية الدفاع عن نفسها، وهذه شرعية لا تُضاهيها أي شرعية أخرى.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار