غضب غضب

تشرين- إدريس هاني:
مصير الاحتلال إلى زوال، سيسقط لا محالة حتى وإن بقي وحده في جزيرة من الصّمت. ستأكله الأرض، لأنّه تشكيلة شعبية لا يشدّها سوى عصب ميّت، أجل، سيسقط، لكن، هل يا ترى سيسقط نظام التّفاهة الذي أحاط به نفسه منذ وعد بلفور الفضولي؟
– يتحدّثون في صوالينهم «جمع صالون» عن الأنسنة الكونية لعالم بات قرية صغيرة، وحين تحضر فلســطـين، يقولون: هي بعيدة، ويصبح العالم مجرة بعيدة، ويزعمون أنه لا علاقة لنا بالشرق الأوسط، لكنهم يتدخلون فيه ويستدخلونه في خياشيمهم، يصبح المحتل قريباً والمستضعف بعيداً.
– يقولون: إننا ضد الأيديولوجيا التي أحاطت بها هذه القضية نفسها، وكأنّهم يتحدثون في حدود مجرد العقل، لكنهم كانوا ضد القضية وسيكونون غير آبهين بالإنسانية المشخصة باللحم والدم ويتغنون بإنسانية مجردة، تضليلاً لعوام النّاس، لقد كانوا في كل المراحل ضد تلك القضية، سواء عندما كانت المقاومة شيوعية، أو حينما كانت قومية، أو حينما كانت إسلامية، هل شرط التضامن مع الهنود الحمر الاعتقاد بأساطيرهم؟
– ما كنت أسمّيه بالالتفاف التضليلي على المفاهيم الكبرى، انكشف بوضوح في أحداث غزّة، إنّه طوفان المفاهيم، حيث أخرجها من لعبة التضليل والخداع، فالأطفال في غزة اليوم يزأرون كأشبال الأسود، وعند كل زئير تسقط السّمسرة بالمفاهيم.
– في الطّرف الآخر، حتى نكون منصفين، يهتفون باسم القضية، ويتحمّسون حتى آخر رمق، وحين تحضر حيث هم «يكحّلون بالعما»، ربما كان ذلك بسبب اللُّـُتيّا والتي، بعضهم ينسى الاحتلال فيرى فيك عدواً أنطولوجياً وككل دجّال عرفه تاريخ بني البشر، لا يوجد سارق أو كاذب أو نصاب لا يبرر فعله بتشويه الآخر، لكن حين يكونون في البلاد حيث اللُّـُتيا والتي، يتملّقون حتى آخر رمق، وأحيانا يزحفون على بطونهم، تعرفهم في لحن القول وتعدد الخطاب، وكأن لا أحد يحصي عليهم تناقضاتهم، ليس في بنية الخطاب فحسب، بل في سياقاته الزمنية وشروطه ومآلاته أيضاً، ليس هناك تفسير آخر سوى الخوف على دكاكين فقيرة، تحتوي على بضع علب من التيد وبضع قنينات من الزيت وجافيل، وشيء من «الديطاي»..بؤس في بؤس.
– يتوشحون الكوفية، ويركبون موجة نضال أجرب، وقد حاربونا فقط لأننا أقمنا لقاء تضامنياً مع فلسـطـين، والأغرب، يحبون أن يتحدثوا للعالم عما نحن فيه أصالة، كيف للحقد أن ينتج مناضلين حقيقيين. الصدق له علامة، وليس مجرد ادعاء ومسرحية، والحكم دائماً كان لله والتّاريخ وأهل النُّهى، لا شيء أسوأ من مناضل سبهللة، يمارس النضال بالمراسلة كما في قصيدة المزبلة لأحمد مطر.
– لا يستطيع أهل النصب والاحتيال في مجال النّضال أن يظفروا باستقامة في النظر أو الرؤية على طول الخطّ، أمّا التاريخ فهو تاريخ بزّاقي «بوعبولائي»، والتّاريخ المشهود غير قابل للتزييف.
– ما زالت الماكينة الحربية للاحتلال تفتك بالمدنيين والبنية التحتية، لا زالت غزّة هاشم تشهد حمام دم، والقاتل هو الاحتلال والصّمت الدّولي والإقليمي مطبق بشدّة، المعابر مغلقة، لا شيء يصل، والكل في حالة انتظار، والحق، لا بدّ من موقف استعجالي، بتعبير آخر، على محور المقاومة ألا يسمح بمواصلة الجمود الذي هو مطلوب لدى الاحتلال، يجب خلق فتوق في مخططه، بتعبير أوضح وأوضح، يجب استعجال إنقاذ أهل غزّة، حيث تنتقم منهم الآلة الحربية، لأنّهم البيئة الحاضنة للمقاومة.
– في هذه الأثناء، يبدو أنّ هناك ترنّحاً في الوعي حيال ما يجري، السّرديات التي تسبق الحدث، ما زالت تهيمن على الكثير من صُنّاع المحتوى أو النخب التي آثرت التعاطي مع اللّحظة وانتهاك مقدّماتها، لكل لحظة تأويلها الخاص، وبين لحظة وأخرى تُنتهك كل الاستشرافات التي تُقدر بالمدى المتوسط والبعيد. التّاريخ يصنعه الأبطال، وقوانين التّاريخ لا تتوقّف على السرديات والرغبات.
– طيلة 13 عاماً، والوعي يتدحرج، والكهنة يخلطون بين منطق التاريخ وأحلام اليقظة، نتساءل: أين اختفت جيوش الظلام، التي صُمِّمت لتخريب الأوطان، وقتل الأبرياء، وتكفير العالم؟ أين من كانوا يهدّون قلاع الممانعة ويملؤون الدنيا ضجيجاً؟ ويعانقون قادة الـ«ناتو»، أين الذين شككوا في الممانعة وسخروا قدر ما يتيحه شيطان اللاّ مسؤولية التّاريخية، حتى داهمهم العدوّ، ولا زالوا يمضغون في خطاب التّفاهة والكراهية؟ أين عشرات التنظيمات التكفيرية، وأمراء التكفير الذي بنوا إماراتهم فوق جماجم وأشلاء الأبرياء؟ أين الإئتلافات وخطابات التحرر وأبطال حروب طروادة برسم الثورات الملوّنة؟ لماذا نخشى من التّاريخ فقط حينما نثيره نحن، أمّا حين نسكت، يُصبح التاريخ الملون غواية.

– الاحتلال يبحث عن باراديغم جديد للتفسير لما بعد الطوفان، بينما خبراء التضليل يلتفون على الواقع لإجباره على الخضوع لسردياتهم البالية، ولتكريس قراءات أثبتت فشلها، لأنها لا تنطلق من الواقع بقدر ما هي مستحثّات أزمنة الهزيمة والفوضى. هكذا لن نجد في جعبة رضوان السيد أو أبي يعرب المرزوقي أو عبد الله النفيسي هذه الأيام سوى إعادة توزيع لحني لمضمون يقوم على تركيب الوهم لا المعطيات، يتحدّثون عن المقاومة على طريقتهم، لكن المقاومة تجاوزتهم في منطقها وتكوينها ومنظورها ومقاصدها. من يا ترى يُخضع سنافير التحليل الاستراتيجي لوجبة فلقة؟ أمّا مضمون ما نطق به أولئك الذين ذكرنا أسماءهم، فهو لا يستحق النّقاش، لأنّه خطاب نابع من الحقد ومقتضيات الوظيفة السياسية، وهم لا يفعلون سوى تبرير مقدّماتهم الخاطئة وسنوات من التضليل بفاسد المقاربات. وإنّني أدري ما أقول، وخبير بما أقول، ولا أخفي موقفي منهم، لأنهم لا يخفون موقفهم من الحقيقة. وواجب التنوير أن نعرف من يُضلل أمّة منكوبة بدافع الحقد أو مقابل البيرّة.
أبو يعرب المرزوقي يقسم بجميع الآلهة، بأن فيلق القدس لم يطلق رصاصة واحدة في فلسطين. وهو يساوي بين الاحتلال وطهران، كلاهما يتنازع الاحتلال في المنطقة العربية، وسبق أن اتهم كتائب القسام بالغباء السياسي، مثال جيد عن كيف يكون التحليل السياسي بعلم الكلام لا بعلم السياسة.
يتحدّث بكل وقاحة أنّ إيران تحتل سورية، ويتكرر هذا الزُّقاح على ألْسنة حمقاء، وهو يستهين بالبلد الذي لم يركع للإمبريالية على الرغم من سبعين خريفاً من حرب التهريج، كما يتهم العراق الذي صنع قواه الشعبية الرادعة بعد أن عيّروا خياره المقاوم بنعوت شتّى ومجدّوا في زرقاوييه المشبوهين، الحقد على الصمود والمقاومة ظاهرة تحت الشّمس.
يقولون لماذا سارعت إيران إذاً في التدخل في سورية، ولقد أجبناهم عن هذا السّؤال في حينه، بأنّ قياس إبليس ينتج فظاعات تحليلية، فالتحالف بين بلدين يجمع بينهما اتفاقية دفاع مشترك، هو تنفيذ لمعاهدة سيادية بين البلدين وليس احتلالاً، هذا ووجب نطح أكذوبة أن هناك سرعة في التدخل، بحقيقة أنّ التدخل جاء بعد شهور، وجاء تدريجياً بعد اتساع دائرة التدخلات الخارجية ومحاولة تنفيذ مخطط يجمع بين تدمير حاضن للمقاومة وحقد قديم لا مجال هنا للتفصيل فيه، إنّ قلّة المعطيات، والرغبة في التبشيع والاختزال والتضليل، جامحة، وهذا يشكل تشويشاً على فعل المقاومة.
– إعطاء دروس للمقاومة وتحليل وضعها في غياب بيانات حقيقية، وقاحة تنضاف إلى الجهل المركّب وأيضا الرغبة في صناعة وعي زائف، والخوف من المستقبل، لأنّ كلّ هذا الهُراء من التحاليل، سيسقط على مناخيره.
– كان من الضروري أن نفتح قوساً لنصفع بعض أنماط القراءات التي لازالت تطل بين الفينة والأخرى، للتشويش، هذا بينما يغيب الذكاء عن جملة ما نسمعه من تفاهات، حيث لو كانت معضلة ذلك المحور المتّهم من قبل مرضى الطّائفية الرعناء، هي التنسيق مع الغرب، فالأولى أن يتفادوا كل هذا الحصار والعقوبات والتخريب والتآمر والتهديد، ويتاجروا بالقضية العادلة مع الغرب مباشرة، فإذا فعلوا، سمحت لهم روما الجديدة بامتياز الجندرمة الإقليمية، لأنهم يملكون مقوماتها الجيوستراتيجية، لكن المحلل السبهللة يصعب عليه اعتبار العدالة في التحليل. تحتاج البيئة إلى تنظيف الأجواء وإلى تربية على قواعد التفكير السليم، لأنّ البيئة فقدت التوازن، كما هيمن اللاّسواء على العقل العربي.
– نذكّر بأنّ الحقد والنّضال متناقضان، كما نذكّر بأنّ من اختار طريق الرجعية، وتربّى في كنف التيارات المهزومة، لا يمكنه أن يعوّض هذا النقص في مشاريع بهلوانية في سيرك مفتوح على الآخر، متى يتوقّف العويل، ويتطوّر الفعل النضالي.
– المقاومة ملّة واحدة، وهي اليوم مشروع مركّب، ومن تمثل غبيّ بريفير، ومسح الأرقام والحروف، لن يكون مجرد مهرّج فوق ركح أحداث ليس له فيها نصيب، بل سيكون نغمة ناشزة.
– ويبقى أن نذكّر بأنّ الإعلام بات أقل رشداً من أن يحتضن فعلاً مقاوماً بحجم طوفان الأقصى، وبحجم آلام المستضعفين في الأرض، بعض من إعلام “الممانعة” تذاكى أكثر ليصبح جزئياً مخترقاً، وهو في زهو كبير، قاطعت الجزيرة طيلة ما يربوا على العشر سنوات ونيف، ومضطراً اليوم أن أتابع من خلال مباشرها وقائع ما يجري في غزة، وما قدمته هذه القناة من شهداء التغطية المباشرة، وبالمقابل، أغلقت بعض قنوات الممانعة، أعني بعضها، لأنّها لم تعد تقدّم شيئاً مُقنعاً، أمقت الزهو وأهله في كل الميادين.

– لطالما تحسّرت وأنا أستمع مليّاً لخطاب الفصائل الفلسطينية، التي تدرك مسؤوليتها التّاريخية، وأنّ الجامع بينها، الحفاظ على القضية في جذوتها كي لا يتمّ تصفيتها، وأدركت من خطاب محور الممانعة في الظاهر من قوله وفي كواليسه، حِمْلَه الشعوري تجاه قضية لا مجال للعب فيها، اثنان لا يمكن أن تعلّمهم ما ينبغي وما لا ينبغي: الطفل والمقاوم في الميدان، الطفل يشعر بمن يعطف عليه، المقاوم يشعر بمن هو شريكه في التّضحية، يمكنك أن تُخطئ، لكن العناد والإصرار على الخطأ من الكبائر في الدين والسياسة.
– يهتفون في الساحات: افتحوا المعابر للمساعدات، وهذا هو المطلوب، آخرون لا عهد لهم بالحرب يقولون: افتحوا لنا الحدود، ونقول: غزة ليست في حاجة إلى مقاتلين متطوعين كما جرى في زمن الفوضى، علماً أنّ من اختار الزعيق مدى الحياة ليس له في الوغى نصيب، غزة تحتاج إلى جيوش عربية وذخيرة ولوجستيك، كما تحتاج إلى مساعدات فورية لإنقاذ أهلها الذين جعلوا المحاجر تبكي دماً، اجعلوا شعاراتكم في خدمة الشعب الفلسطيني ولا تجعلوها في خدمتكم وخدمة دكاكينكم ومآربكم، تحتاج القضية الفلسطينية إلى نوايا حسنة وضمائر حية وقلوب بلون اللبن: فليسقط الاحتلال، والحقد، والدكاكين، وما لا ينبغي من اللٌّتيّا والتي.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار
ناقش مذكرة تتضمن توجهات السياسة الاقتصادية للمرحلة المقبلة.. مجلس الوزراء يوافق على إحداث شعبة الانضباط المدرسي ضمن المعاهد الرياضية "ملزمة التعيين" وزارة الدفاع: قواتنا المسلحة تستهدف آليات وعربات للإرهابيين وتدمرها وتقضي على من فيها باتجاه ريف إدلب الجنوبي مشاركة سورية في البطولة العالمية للمناظرات المدرسية بصربيا القاضي مراد: إعادة الانتخابات في عدد من المراكز في درعا وحماة واللاذقية «لوجود مخالفات» غموض مشبوه يشحن الأميركيين بمزيد من الغضب والتشكيك والاتهامات.. هل بات ترامب أقرب إلى البيت الأبيض أم إن الأيام المقبلة سيكون لها قول آخر؟ حملة تموينية لضبط إنتاج الخبز في الحسكة.. المؤسسات المعنية في الحسكة تنتفض بوجه الأفران العامة والخاصة منحة جيولوجية ومسار تصاعدي.. بوادر لانتقال صناعة الأحجار الكريمة من شرق آسيا إلى دول الخليج «الصحة» تطلق الأحد القادم حملة متابعة الأطفال المتسرّبين وتعزيز اللقاح الروتيني دمّر الأجور تماماً.. التضخم لص صامت يسلب عيش حياة كريمة لأولئك الذين لم تواكب رواتبهم هذه الارتفاعات إرساء القواعد لنظام اقتصادي يهدف إلى تحقيق الحرية الاقتصادية.. أكاديمي يشجع على العودة نحو «اقتصاد السوق الاجتماعي» لتحقيق التوازن بين البعد الاجتماعي والاقتصادي