الفنان الحروفيّ «أحمد كمال» يستعيد جماليّات الخط الكوفيّ العتيق
تشرين- بديع منير صنيج:
يعمل الفنان الحروفي «أحمد كمال» في معرضه «عتيق» بكل ما أوتي من معرفة وإمكانات عالية على إحياء الخط الكوفي المُصْحَفي نادر الاستخدام، جاعلاً من لوحاته الخمس والستين التي احتضنتها صالة لؤي كيالي في الرواق العربي بمنزلة تعزيز لمكانة هذا النوع من الخطوط، بما تمتلكه من جماليات تشكيلية فريدة، سواء تم استخدام هذا الخط في مشق عبارات مقروءة من آيات قرآنية أو مقولات شعرية، أم وُظِّفَت حروفه كعناصر أساسية في بناء اللوحة التشكيلية، وكأن في ذلك تأكيداً على مقولة بيكاسو «إن أقصى نقطة أردت الوصول إليها في فن الرسم وجدت أن الخط العربي قد سبقني إليها منذ أمد بعيد».
استفاد كمال من أناقة الخط الكوفي المصحفي القديم ورشاقة حروفه في تكوين أعمال معاصرة برؤية حداثية، تُركِّز على انسجام تداخل الحروف وتجاوراتها وتراكمها على شكل عمارة رشيقة، تزيد من حيوية حضورها الإيقاعات اللونية التي استخدمها في اللوحة وخلفياتها، جاعلاً العلاقة بين حروفياته متأرجحة بين التباين والانسجام مع المساحات اللونية في مختلف مناطق اللوحة، وأحياناً تكون هذه الحروف متعانقة في مركز العمل مُشكِّلةً بؤرته، بينما تستقر على الحواف، وكأنها ركيزة تتأسس عليها فكرته عن اللوحة، كل ذلك أضفى على المعرض تكوينات حيوية وقوة وفرادة في آن.
وتعيدنا أعمال ابن الرقة إلى أسلوب الرائد التشكيلي السوري محمود حماد، بما تمتاز به من رصانة في البناء مضافاً إليها الشاعرية اللونية، إذ استطاع كمال بموهبته الفذة وحسه اللوني المتميّز وإتقانه للمشق بجميع أنواع الخطوط العربية ومعرفته العميقة بالخط الكوفي المُصْحفي، أن يوازن عناصره الشكلية واللونية، مُحققاً لوحات تتحول فيها الحروف إلى بستان ورد، وفي أحيان أخرى إلى ضفاف فراتية جميلة، وفي مرّات إلى غصن يتكئ عليه عصفور على خلفية من نور، وغير ذلك الكثير، وكأنه في معرضه «عتيق» يُمسك بالخط الكوفي العتيق ويزرعه في الحاضر وفي مخيلة كل من شاهد أعماله ببصمتها الفكرية المميزة، فاللوحة عنده في الأساس هي نتاج فكرة أكثر منها شيئاً تقنياً.
وهذا ما أكده الفنان وسام قطرميز، مدير متحف الفن الحديث بدمر، في حديثه مع تشرين، إذ قال: «تنحاز تجربة الخطاط والتشكيلي الحروفي أحمد كمال نحو البساطة في التشكيل، وترجمة المشاعر الكامنة من خلال ليونة اليراع ورصانة القصبة، حيث يبوح في كل عمل فني بفكر خاص في صوغ التراكيب المتناثرة، لتُشَكِّل كلّاً متكاملاً بعد تأنٍ وروية في تأملها. أما التشكيلات في خلفية معظم أعماله فتمتلك خصوصية متفردة من حيث التجانس اللوني والبعد البصري الذي تميل إليه العين السليمة في منتهاها».. وأضاف قطرميز: «تنوعت الأعمال الفنية المقدمة ما بين الحروفيات بثوابتها المؤكدة، والتشكيل الفني بالحروفية، لتبرز كل مجموعة مقدَّمة مراحل الهوية الخاصة التي مر خلالها ابن الفرات العذب. إذ نشاهد الكلمات المقدسة بمتانة رسوخها في كادر العمل، مع استخدامه نقطة الحروفية الأم التي طالما ترتكز من خلالها عين الناظر لتتيح له الأريحية في فك مركّباتها تارةً، ولتستوقفنا أمامها بشغف منقطع النظير لتشفير رموزها ودلالاتها في عديد اللوحات تارةً أخرى».
وأوضح النحات والمدرس في كلية الفنون الجميلة أنه مع التشكيل باللون، وهو مُستَقرّ تجربة الفنان الأخيرة، نلاحظ الانسيابية والأناقة في ضخ الحروف والكلمات، لترتبط ارتباطاً وثيقاً بألوانه العفوية التي يتكئ عليها بمحبة واضحة في تقديم مُخْرَجات فنية تهدف نحو الجمالية البصرية المتناغمة، ونحو البُعْد (العمق) المطلوب في مكونات اللوحة التشكيلية.
ويقول: «في منحى آخر، يمتلك الفنان حساً تشكيلياً ومدارك إبداعية مميزة عندما تستفزه التصاميم على اختلافها، أدركت هذا الموضوع ملياً من خلال زمالتنا المتينة، كان يخوض غمار الفكرة، ويبحر من أجلها طويلاً بهدف سبر تفاصيلها كلها، ليقدم تشكيلات مدهشة في دقائق معدودة. تلك هي شخصية الفنان الحروفي المغامر التي لا تقف عند إشكالية واحدة، بل تتعداها بإرادة، إذ تتعدد الإشكاليات، لتتدفق المعاني عنده نحو اللا محدود».
وللتعمق أكثر في هذه التجربة التشكيلية الخاصة قال الفنان أحمد كمال في تصريح خاص بتشرين: «استخدمت في أعمال هذا المعرض الحرف الكوفي الأول، المسمى «الحرف الكوفي المُصْحَفي» قبل التنقيط، وأضأت على مرحلة تدوينه الممتدة من 18 للهجرة حتى 300 للهجرة، وذلك وفق أسلوبين: الأول محاكاة للمخطوطات القديمة، والثاني من خلال تشكيل لوحة حروفية، بمعنى استخدام الحرف الكوفي بتشكيل لوحة».
وأضاف الحروفي السوري: «هذا الحرف نادراً ما يستخدمه الخطاطون، إذ يكتبون بمعظم أنواع الخطوط من الرقعي والفارسي والنسخ والديواني… لكنهم يبتعدون عن هذا الخط، فهو بمنزلة معجم له قواعده الفريدة، حتى إنه كان غير مقروء سوى من قبل العرب الأقحاح». أما ما يميز الخط الكوفي المُصْحفي عن الكوفي العادي، فأوضح كمال أن كليهما ينتمي إلى نوع الحروف الجامدة، لكن الكوفي المصحفي يُكْتَبْ بالقصب، وهو ليس مثل الخط الكوفي القيرواني أو الكوفي الأندلسي اللذين تطوَّرا عنه، وبات الخطاطون يستخدمون الأدوات الهندسية في تشكيلاتهم الحروفية، بمعنى أن الكوفي المصحفي فيه روح تتكثَّف تمظهراتها من خلال المشق بحبر الجوز والحبر الذي صنَّعته من القرمز.
وعند سؤالنا عمّن علَّمه هذا الخط، أجاب كمال: «تمّ ذلك بجهد فردي شاق»، قائلاً: «حصلت على مخطوطات مُصَوَّرة لمصحف عثمان الموجودة في إسطنبول، إلى جانب آية آل عمران المحفوظة في جامعة كامبريدج ببريطانيا، وقمت بمقارنات بين كل آية مكتوبة بهذا الخط مع نظيرتها في المصحف الحديث، وبدأت أفك الرموز حتى عرفت الحاء من الخاء، والزاي من الراء… وأخذ مني ذلك سنوات طويلة حتى وصلت إلى هذه المرحلة، وبتُّ الآن أُدرِّس هذا الخط تحديداً في معهد الفنون التطبيقية بقلعة دمشق، وأيضاً ضمن معهد وليد عزت، وأصررت على ذلك، كي يبقى الخط الكوفي في ذاكرة الجيل الجديد، ويترك أثراً طيباً في نفوسهم».