الاحتلال يقضّ المشروع الغربي
تشرين- ادريس هاني:
26 يوماً من القصف الشديد، فوق غزّة، كانت كافية لتجعل أطفالها شهود عيان على حرب الإبادة. الصدمة مقصودة، والنظام الدّولي يفكّر بلغة رخوة، تغلب فيها السياسة على القانون الدّولي.
يكتب مسؤول الاستخبارات البريطانية السابق، ومؤسس منتدى «فك النزاع» في بيروت، ألستر كروك، في «Strategic Culture Foundation» مقالة تحت عنوان: «هدم السقف وفق نموذج اليو» وفيه يعزو أسباب الحرب؛ سواء في أوكرانيا أو غزّة إلى الغموض المفتعل، في نشوة ما بعد الحرب الباردة بالنسبة لترسيم حدود المصالح بين الغرب وروسيا، أو الرغبة في ضمان التفوق العسكري الصهيوني على الدول العربية بالنسبة للشرق الأوسط . كان ذلك مؤشّراً على قيام الحرب. الغاية إذاً هي تأمين الهيمنة الغربية على قلب العالم والشرق الأوسط . يرى ألستر كروك أنّ نتنياهو عمل منذ عقد من الزمن على «دفع الناخبين الإسرائيليين إلى أقصى اليمين، مستغلاً إيران باعتبارها الوهم الذي يخيف به الجمهور». كما حاول إقناع ناخبيه بأنّ العالم لم يعد يكترث للفلسطينيين بفضل اتفاقيات أبراهام.
لقد أخفى عن الغرب التزاماته في مجلس الوزراء تجاه مشروع بناء الهيكل الثالث، وهو ما يعني هدم المسجد الأقصى. كما تعهد ببناء «إسرائيل على أرض إسرائيل التوراتية»، الأمر الذي يقتضي تجريد أهالي الضفة الغربية من ممتلكاتهم. أما التعهد الثالث، فيتعلق بتطبيق الشريعة اليهودية بدلاً عن القانون العلماني، وهو ما يقصي الفلسطينيين. وهذا ما أكده نتنياهو حين كان يلقي خطاباً بالجمعية العامة للأمم المتحدة قبل أسابيع، ويلوح بخريطة «إسرائيل» لا وجود فيها لغزة والأراضي الفلسطينية. وفي هذا السياق يؤكد ألستر كروك أنّ نتنياهو يهدم تحت دينامية خوفه وضعفه، المشروع الغربي بأكمله. بايدن الذي عرّض أمريكا وحلف شمال الأطلسي للإذلال في أوكرانيا، هو يفعل الأمر نفسه من خلال إذلال« إسرائيل» على إثر تشجيعه لانتقامها من غزة. لقد انهارت البنية الاستخباراتية والعسكرية في «إسرائيل» حسب ألستر، يتساءل هذا الأخير: ماذا لو اختل الهيكل السياسي أيضاً؟.. يتحدث ألستر عن خطر وجود لـ«إسرائيل» في حال استمر نتنياهو ووزير حربه في مواصلة الانتقام لأحداث يوم السبت 7 تشرين الأول 2023.
ثمة تفاصيل في هذا المقال الذي أحببت أن أبدأ به تحليلي لتداعيات الوضع في غزّة. فألستر كروك ليس مطلّعاً على تفاصيل ما يجري في المنطقة فحسب، حيث كانت له تجربة في التواصل مع فصائل المقاومة ودخل في مشروع وساطات، بل أكثر من ذلك، هو يمتلك معطيات فضلاً عن رؤية بعيدة المدى عن الصراع. وهو هنا يدرك أنّ الاحتلال على وشك الدخول في أزمة وجودية.
القارئون للأحداث من منظور استشرافي، الذين يتحلون بالموضوعية الكافية لمصالح بريطانيا وحلف شمال الأطلسي حيث كان ألستر مستشاراً لسولانا (عملة رقمية لا مركزية).. القارئون لا يترددون في رسم مصير مجهول للاحتلال، خلافاً لبعض المؤثرين في البلاد العربية.
من جهة أخرى، نستطيع الحديث عن أنّ الاحتلال فقد السيطرة على مصير الحرب، لأنها باتت عبارة عن تصريف متوحّش للثّأر، كما أنها فقدت بنك أهداف حقيقياً، إنّها حرب تؤشّر إلى إفلاس نهائي.
يواجه الاحتلال المدنيين، بينما المقاومة ما زالت تسيطر على المعركة. هذا يؤكّده فشل جيش الاحتلال في الاختراق البري رغم الصبيب المهول للنار فوق غزة. لكن التحدي الأكبر الذي يواجهه الاحتلال، هو ماذا بعد؟ فلقد سقطت التكنولوجيا الحربية التي شكلت رادعاً كلاسيكياً حدّ الزهو. وعلى الأقل هناك ثلاثة مظاهر للقوة سقطت: الميركافا، القبة الحديدية، البيغاسوس. هذا يعني أنّ المعركة مركّبة إلى أبعد الحدود.
في قلب هذه المعركة التي أظهرت الكثير من القوة الصلبة، توجد معالم القوة الناعمة، أي قوة الجذب والثقة التي اشتغل عليها الاحتلال، وخرق بها جدار الممانعة، لكنه فشل في يوم واحد من طوفان الأقصى. يعتقد البعض، أنّ مسار القوة الناعمة في المنطقة هو لصالح الاحتلال. ومرة أخرى، نؤكّد أنّ النزعة القياسية التبسيطية للقوة الناعمة، تؤدّي إلى مُهلكات لا رادّ لها. ذلك، بأنّ جوهر الاحتلال هو نقيض لفكرة الجذب، في منطقة ليس لها ما يصرفها عن التشبث بهذه الحقيقة، ليس لأنّها لا تتمتع بالرفاهية التي تنسيها هذه الحقيقة فحسب، بل أيضاً لأنّ وجود الاحتلال هو مانع من التفوق والتقدم خارج رهانات التبعية. وقد رأينا أنّ تركيا، على الرغم من علاقاتها العميقة مع الاحتلال، لم تستعمله كعنصر أساسي في القوة الناعمة، بل عملت دائماً على وضعه تحت الطاولة. لا يمكن تحويل الاحتلال إلى قوة ناعمة. وفي بحر من الجماهير العربية المؤثرة، كانت فلسطين وما زالت تشكل محتوىً أساسياً للقوة الناعمة. إنّ الخطاب المتجاهل لهذه الحقيقة، هو مُقوّض لمكتسبات القوة الناعمة، التي تُقدر بما تكسب مقابل ما تخسر. وحساب الربح والخسارة هو حساب معقد، وزمنه الموضوعي غير استعجالي، وحساباته الجيوستراتيجية تقوم على الاحتمال لا القياس، وعلى استيعاب دينامية العلاقات الدولية والإقليمية وثأر الجغرافيا، بينما الجذب يراعي مشاعر الجمهور المعني بقوة الجذب. القوة الناعمة تقوم على الحجاج الفائق وقوة الإقناع الذي تحدد نجاعته الأرقام والبيانات وليس التّواهم الخادع.
المنطق القياسي الذي يتجاهل أو يجهل أحياناً منطق الاحتمال، يصعب عليه إدراك ما سبق وأكدنا عليه مراراً، بأنّ المنظور الهشّ للقوة الناعمة، سيواجه تحدّياً كبيراً لمجرد حدث صغير تحت عنوان المقاومة.
اليوم ترسم المقاومة في غزة معالم قوتها الناعمة بالدّم، وهي استطاعت أن تعيد الاحتلال إلى المربع الأوّل، وهي كما سبق من كلام ألستر، في لحظة هدم المشروع الغربي، بتعبير آخر، هل سيحافظ الاحتلال على المصالح الغربية نفسها إذا ما استمرّ على سياسة الحرب المفتوحة والمنزوعة المعنى؟
سيبقى السؤال: هل غزّة وحدها في الميدان؟
يدرك الاحتلال والقوى الغربية أنّ ثمة خطوطاً حمراء، تحددها قواعد الاشتباك. ولا يخفى على أحد، مشرقاً ومغرباً، أنّ الدولة الإقليمية الأكثر حضوراً في المشهد هي إيران. وهذه الأخيرة غير معنية بمخرجات تاريخ الصراع العربي – الصهيوني، كما أنها غير معنية بحسابات التسويات الكلاسيكية للصراع. وهي موجودة، من حيث اللوجستيك والتكوين، ومن حيث حراسة قواعد الاشتباك. لقد تمّ تطويق الاحتلال بمعادلة لا يفيد تجاهلها، لأنّها لم تعد تأبه لسلطة الخطاب الإعلامي، فهي معادلة ميدانية شديدة التعقيد والتّأثير. الشيء الذي يدركه الغرب، ويصعب إدراكه من رأي عام يجهل التفاصيل التي فاجأت حتى النظم الكبرى. ويبدو أنّ الحرب التركيبية التي خاضها الغرب ضدّ إيران ارتدت عليه في طوفان الأقصى، لقد أصبح الغرب متهماً بانتهاك حقوق الأطفال وداعماً لجريمة حرب. لقد ظل الغرب ومحاوره الإقليمية غير آبهين للتطور الذي انتهت إليه المقاومة، حيث حيّدت الحرب الكلاسيكية وجعلتها حرباً بلا أهداف، كما سلبت من الاحتلال سلطة المبادرة بالحرب وسلطة حسمها. وحتماً هناك حرب أخرى على مستوى الرموز والوعي والمفاهيم، لا تقلّ خطورة عن الاشتباك في الميدان. لقد أهدر الغرب ومحاوره الكثير من الإمكانيات في حرب الرموز، وما زال بقايا منها في أهراء ومخازن مظلمة، غير أنّ طوفان الأقصى أربك كلّ التّكهّنات. هل يملك أولئك الهواة بعد اليوم أن يتنبّؤوا قيد أنملة أمام زمانهم المحاط بحزام مهيب من الجمود؟
هل يا ترى سيكون ما بعد طوفان الأقصى كما قبله؟، هذا سؤال عريض. وقد يكون للمقاومة تأثير كبير على النظام العربي الرسمي، لكي يتخفف أكثر من إكراهاته الدولية، على الرغم من أنّ هذا صعب، نتيجة هشاشة هذا النظام وانخراطه في نزاعات بينية.
هل يا ترى يمكن الجمع بين السلام والاحتلال؟ هل يمكن قيام نهضة عربية أو تنمية في ظل معادلة تقتضي تحجيم نهضة الأقطار العربية وحراسة تخلّفها؟ هنا تبدو القضية الفلسطينية شاغلاً أساسياً لا فكاك عنه لكل الأقطار العربية، لأنّ أي حدث هناك، يعيد بعثرة الأوراق في سائر البلاد العربية. وهذا ليس له صلة بالأواصر الإقليمية فحسب، بل لقد رأينا كيف أنّ أحداث غزة أوقفت الزمن السياسي في النظام الدّولي، حتى أنّ الغرب بات يواجه سؤال الأولوية بين أوكرانيا والكيان الصهيوني.
لقد تجاوز الحدث الفلسطيني خطاب التمجيد الأبله للاحتلال وإغماط حقّ الفلسطينيين، كما تجاوز جمود خطاب السمسرة، والاستعمال والتدكين، وجهان لعملة واحدة. إن استمرت الحرب على المدنيين أو توقفت، فهي لا تخفي أنّ النظام العالمي بات اليوم رهينة لمعركة غزّة. إنّ المشروع الغربي الذي صُمم للاحتلال منذ وعد بلفور بات متجاوزاً مع احتلال خرج عن الطوق ملتهماً نفسه.
كاتب من المغرب