ضد الإمبريالية.. إنها معركة أنطولوجية

تشرين- إدريس هاني:
نسيان الوجود الذي آلت إليه الميتافيزيقيا الغربية، هو شهادة هيدغيرية ما فتئت تتطوّر منذ نيتشه، الذي اختار بين ضربين من الإنسان: إنسان روسو وإنسان شوبنهاور. انتصرت الإرادة، معرفياً ووجوديّاً، في انتفاضة الدازاين، لكنّها لم تضع عنها أصر الشروط التي تنشأ منها المعرفة البديلة. وأحسب أنّ هيدغر أراد أن يحلّ المُعضلة من خلال مغامرة أركيولوجية، استندت على المكنز الفيلولوجي، لكنها ظلت وفيّة للأصل الهيليني للوجود ومأواه اللغوي، عاجزة عن البحث في أنثربولوجيا الوجود. وأقصد هنا، بهذا المفهوم الذي أردت من خلاله، أنّ أوسّع من فرص البحث عن النزعات الإنسانية، على هامش الهيلينية التي باتت مرجعية أوحدية لمُعجم الوجود. فهل يا ترى بحثنا في أساطير الأولين والآخرين، خارج نظام الخطاب ذي الجذور الهيلينية، كيف عاقر الإنسان في مختلف الحضارات الوجود، كيف آنس أو مزج أو عانق وجوده؟
شيء مهمّ جدّاً هو موضوعنا الآن، أي ما يتعلّق بالوضعية الجيوستراتيجية وأثرها على الوجود، ثم تحديداً أريد أن أتحدّث عن دور صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في نسيان الوجود أو ما أسميه بـ: تقويض النَّضَارة الوجودية (la fraîcheur ontologique)، ونزع -هذه المرة- ليس الابتهاج عن العالم -المأثورة الفيبيرية- بل نزع الأثر الأنطولوجي الخلاّق عن العالم.
ارتقى الخطاب المناهض للإمبريالية في اختراقاتها لما بعد الحرب العالمية الثانية، إلى تفكيك الوظيفة العميقة لنظام «بريتون وودز». غير أنّه لم يأبه بالموقف الأنطولوجي من هذا النّظام الذي لم يتوقف عند إدارة الأزمات النقدية في العالم فحسب، بل بات في مواجهة المواطن، والإنسان، يحاصره في التربية والتعليم وأنماط الغداء والسلوك.
إنّ صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وسيلتان لسلب السيادة من الدّول من خلال عقود إذعان تكفلها عملية إعادة الهيكلة. ثمة ما هو أبعد من مجرد مستحقات تُحاصر التنمية وتُضاعف تسديد الدين الخارجي. تلك آلية الاستعمار الجديد. ليس في سجلّ الهيئتين النقديتين، مثلاً عن دول خرجت من أزماتها خروجا بنيويّاً. تبدو المقايضة هنا بين المساعدة والاختيارات السياسية. والأمر لا يقف هنا، بل يتعدّى عبر خطاب إعادة الهيكلة، إلى المسّ بالبنيات الاجتماعية والتربوية، وصولاً إلى التهديد الأنطولوجي، حيث إنّ خطاب صندوق النقد الدولي يختزل أزمة العالم في التضخّم وأزمة القطاعات، وهو في إملاءاته يستهدف قطاع التعليم من خلال خفض النّفقات، وربط التعليم بالشغل، ما جعل السؤال الملحّ في النظام التربوي هو تشكيل العقل على أساس أونطو- ميتري، سوق الشغل الذي كان وسيلة سرعان ما بات في حدّ ذاته هدفاً.
تأمين السيطرة على العقل يبدأ من سياسة إعادة الهيكلة وسلب السيادة من عالم محكوم بالتبعية، وبالتالي سلب الإرادة الجماعية ومَحْقُ سؤال التّقدم بالشروط المحلية الممكنة.
لا تحرس الهيئة النقدية الدولية قواعد اشتباك العلاقة غير المتكافئة بين الشمال والجنوب فحسب، بل هي تحرس الوضعية الأنطو- قياسية للعالم. يبقى السؤال الأنطولوجي في ظلّ إمبريالية صندوق النقد الدولي، سؤالاً ناشزاً. ما يعني أنّ مناهضة التبعية ومكافحة الهيمنة الإمبريالية، هي جزء من استعادة السؤال الأنطولوجي. وهكذا، اتضح أنّ المعركة في بعدها الاقتصادي أساسية، غير أنّ هدفها هو أبعد من ذلك بكثير. إنّ معركة الأمم ضدّ التدابير الإمبريالية الشمولية، هي معركة وجود من أجل استعادة سؤال الوجود ونضارته.
إذا مضى العالم على هذه الوتيرة من قضم الهوية الإنسانية من خلال التحكم الشامل في مُستهلكاته المادية والرمزية، سيصبح العالم بعد قرن من الزمن، كوكباً للقرود بامتياز. وما يشهده العالم اليوم هو نتيجة متوقّعة لحرب مستمرة بين السادة والعبيد، بكل ما تعنيه هذه المعركة وقواعدها التاريخية، داخل حداثة مُعاقة، بوسائل إمبريالية تقوم على الاحتكار والتّوحّش وانتهاك الأسس التحررية للحضارة المُعاصرة.

كاتب من المغرب

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار